هارولد يوري مُكتشف الديوتيريوم (الهايدروجين الثقيل)

أعلام لا توجد تعليقات

في خريف العام 1931م شرع أستاذ الكيمياء الشاب في جامعة كولومبيا بدراسة عينة من الهيدروجين السائل. فقد كان في الأبحاث الحديثة ما يدعوه إلى الاعتقاد بأنّ ذرات الهيدروجين ليست متشابهة جميعاً. إن جزءاً طفيفاً منه يملك ضعف كتلة الذرات الهيدروجينية العادية، وما هدف له الأستاذ الشاب هارولد يوري هو فصل الهيدروجين الثقيل وإثبات إنه موجود بالفعل . راح يوري يغلي عينة الهيدروجين حتى تبخرت منها الذرات الخفيفة، ثم وضع الراسب المركز داخل أنبوب مفرغ ومرّر فيه تياراً كهربائياً حتى أخذ يتوهج توهجاً لامعاً، ثم فحص خطوط الطيف فوجد ما كان يبحث عنه: أطوال موجات الهيدروجين الثقيل . تحتوي نواة الهيدروجين العادي على بروتون واحد، أما الذرات الثقيلة فتحتوي نواتها على نيوترون بالإضافة إلى البروتون. وقد أطلق هارولد يوري على اكتشافه اسم “ديوتريوم” مشتقة من الكلمة اليونانية “الثاني”.

كان قد مضى على العلماء حين أدركوا في تلك الأثناء أن معظم العناصر مجموعات أو فصائل من الذرات، وإن لبعض أعضاء كل فصيلة خواصاً كيماوية متطابقة، غير أنها تختلف عن سائر الأعضاء بخواصها الفيزيائية، كالوزن مثلاً. وكانت هذه الأعضاء المختلفة قد سميت نظائر، لقد اكتشف هارولد يوري نظيراً نادراً وقيماً. وقد استخدم هذا النظير كذرة كاشفة، إذ أصبح الآن بوسع علماء الحياة تتبع الديوتريوم في مروره داخل جسد حي فاستطاعوا بهذه الطريقة تبين كيفية استخدام الخلايا للهيدروجين.

Harold Urey 1930 هارولد يوري

واستخدم الفيزيائيون ذرات الديوتريوم كقاذفات لإحداث تحويلات ذرية كي يطلعوا على التركيب الذري. ومن صهر ذرّات الديوتريوم اشتقت قوة القنابل الهيدروجينية. إن الرجل الذي توصل إلى فصل الديوتريوم عالم كيميائي وفيزيائي في آن واحل، ولكنه بدأ حياته العلمية كعالم حيوان.

النشأة والدِّراسة

ولد هارولد كليتون يوري في والكرتون ، انديانا، في التاسع والعشرين من نيسان (إبريل) من عام 1893م . وكان فى السادسة من عمره عندما توفي والده الذي كان قسيساً، وتزوجت والدته ثانية ، وكان زوج أمه قسيساً أيضاً.

بعد أن تخرج هارولد من المدرسة الثانوية، درس في بعض المدارس المحلية الريفية. وعندما انتقلت أسرته إلى مونتانا تبعهم هناك والتحق في سنة 1914 بجامعة مونتانا وتخصص في علم الحيوان فتخرج قبيل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى. وكانت معامل الصناعة الحربية بحاجة إلى الكيميائيين، فاشتغل في معمل للصناعات الكيماوية في فيلادلفيا ولم يعد إلى علم الحيوان منذ ذلك الحين.

وبعد بضع سنوات قضاها في الإنتاج الصناعي قرر أن يتابع دراسته فنال شهادة الدكتوراة من جامعة كاليفورنيا. ثم توجه إلى كوبنهاجن للدراسة تحت إشراف الفيزيائي النووي الشهير، نيلس بوهر (Niels Bohr)، بعد أن حاز على منحة دراسية من المؤسسة الأمريكية الاسكاندنافية. وعقب عودته إلى الولايات المتحدة في 1924، درّس هارولد يوري في جامعة جونز هوبكنز أولا ثم درّس في كولومبيا، حيث شرع يقوم بالتجارب التي أكسبته الشهرة.

تجاربه العلمية

بعد أن نجح يوري في فصل الديوتريوم، راح يسعى إلى إيجاد وسيلة لإنتاج كميات منه على نطاق أوسع. فإن الديوتريوم يشكل جزءاً واحداً فقط من كل خمسة آلاف جزء من الهيدروجين المألوف، وفصله عملية شاقة معقدة. وقد أتاحت منحة مالية من كولومبيا إقامة ورشة لإنتاج الماء الثقيل (الديوتريوم والأوكسجين). وبلغت تكاليف إنتاج أول رطل إنجليزي (454 غرام) من الماء الثقيل المستخدم كمبرد في الأفران الذرية ستين ألف دولار. وقد فاز هارولد يوري في عام 1934 بجائزة نوبل لفصله الديوتريوم. إلا أنه أظهر تواضعاً حيال ما أنجزه من أعمال، فقال: “إن المصادفة المجردة جعلتنا أول من وصل هناك“. وذهب بعض المراسلين الصحفيين لمقابلته في كولومبيا على أثر إذاعة فوزه بجائزة نوبل، فوجدوا الكيميائي الشاب المربع الوجه العريض المنكبين في غاية الاضطراب، إذ كان أحد طيور الحجل قد علق فى نافذة بناية الكيمياء، وكان الدكتور يوري جازعاً على ما قد يحدث للطائر في المدينة ومنصرفاً إلى اتخاذ التدابير لحمل الطائر إلى الريف وإطلاقه هنالك.

بعد أن حصل هارولد يوري على جائزة نوبل، انصرف إلى دراسة نظائر النتروجين . وفي مختبره الواقع في الطابق الأرضي لمبنى هافمير – وهو مبنى الكيمياء القديم الواقع في الناحية المقابلة لبرودواي من مجموعة بنايات وباحات كولومبيا – توصل إلى تطوير طريقة للإنتاج على نطاق واسع لفصل تلك النظائر فصلاً جزئياً. وكان الجزء الأساسي من جهازه عبارة عن أنبوب فولاذي شاقولي ضخم مغطى بورق الفويه. وحين تبين ليوري أنه بحاجة إلى عمود أطول حفر ثقباً في أرض المختبر، ثم شاد أنبوباً طوله خمسة وثلاثون قدماً يمتد من سقف مختبره إلى قبو في الأسفل مؤلف من طابقين.

حين نجح يوري في فصل نظائر النتروجين أمد علماء الحياة بوسائل على جانب من الأهمية. فبات الآن في مقدورهم تتبع طريق هذه النظائر داخل الأجسام الحية واستقصاء الأساليب التي تتبعها المخلوقات الحية في صنع لحمها من البروتينات التي تتناولها في غذائها.

ومن ثم وجه هارولد يوري اهتمامه إلى الأوكسجين والكربون فاكتشف نظائر هذه العناصر. وما إن حلت سنة ١٩٢٨ حتى كان قد حصل على نظائر العناصر الأربعة التي تشكل بمختلف مركباتها زهاء 96 بالمائة من الأنسجة الحية – الهيدروجين والنتروجين والكربون والأوكسجين.

وتدل تجاربه بكربون – 13 ، وهو نظير ثابت، على أن البحاثة الكيمائيين يعيشون أحياناً حياة محفوفة بالأخطار، ففي الجهاز المخصص لهذه التجارب من السم ما يكفي للفتك بكل من في المختبر. ومن باب الوقاية كان يوري يحفظ مُعذاته داخل فسحة مفرغة، ضغطها الداخلي أدنى من ضغط الهواء المحيط بها. ففي حالات التسرب، يندفع الهواء إلى الداخل بدلاً من أن تتسرب الغازات إلى الخارج. وإمعاناً منه في الاحتياط كان يوري يقتني طيور الكنار، تماماً كما يفعل عمال المناجم، للتحذير من وجود غازات سامة.

ونتيجة لتجاربه، استطاع يوري أن ينتج نظائر كربونية بطريقة أسرع بمئات المرات من أي من الطرق المستحدثة قبلاً. وبلغ إنتاج عمليته مائة مليغرام في أربع وعشرين ساعة كما أنتج كذلك تركيزاً من الكربون الثقيل الوزن بلغ ٢٢ في المائة. وكان المادة الجديدة باهظة التكاليف. إذ لو فرضنا أن الكربون الموجود في الفحم يكلف 400 دولار للأوقية الواحدة (28.35 غراماً) مع استثناء تكاليف العمال والأجهزة، فإن الفحم يكلف النسبة نفسها 12,800,000 دولار للطن الواحد . وأعلن يوري في عام 1940 أنه فصل نظائر عنصر كذلك – عنصر الكبريت. وإن الأسلوب الذي اتبعه في استخراجها، ومن وسائله أنبوب طوله 150 قدماً، جعل تلك النظائر متوفرة بكميات كافية وبسعر معقول، الأمر الذي جعلها صالحة للتجارب البيولوجية والعمليات الصناعية.

وقد حاز هارولد يوري على أوسمة شرف علايلة : وسام دافي الصادر عن جمعية لندن، ووسام فرنكلين عن معهد فرانكلين، ووسام ولارد جبز الصادر عن الجمعية الكيماوية الأمريكية. وقد عين مديراً تنفيذياً لدائرة الكيمياء في كولومبيا. وفي خلال السنوات التي قضاها في كولومبيا، عاش يوري في ليونيا، نيوجرسي. وكان قد تزوج من فريدا دوم حين كان يدرّس في جونز هوبكنز وأنجبا أربعة أولاد. ويعود الفضل لجهود زوجته بصورة خاصة في أن يوري كان يحافظ على برنامجه اليومي. وقد بدا ذلك الأستاذ المربوع القامة الممتلىء الجسم لطلابه مهملاً لما يتصف به الأستاذ الشارد الذهن. فكان يلقي محاضراته أحياناً على صف غير صفه وفي غرفة غير التي خصصت لدرسه. وكان يقصد مكتبه وهو يرتدي حذائين مختلفتين من الأحذية. بل وكان يعود بعد الظهر بهما وتكون إحداهما ملمعة.

وباستثناء شرود الفكر، لم يكن لهارولد يوري سوى القليل من الطباع المميزة الأخرى. ولكن كان له هوايات، كرسم الصور بقلم الفحم، والعزف السماعي على البيانو. كما أنه كان يبدل عاداته كل ستة أشهر – من التدخين إلى العلك ثم إلى التدخين ثانية. وفي سنة ١٩٤١ حين بوشر في تنفيذ برنامج حكومة الولايات المتحدة الذرّي ، استدعي هارولد يوري للإسهام فيه، لما عرف عن مقدرته في تنظيم الأبحاث. وكانت طريقته في فصل يو – ٢٥؟ القابل للانشطار عن باقي اليورانيوم هي التي استُخدمت في أوك ردج، تنسي، للتوصل إلى مواد القنبلة الذرية. وفي أثناء سني الحرب لاحظ أصدقاء يوري تغيراً بادياً على محياه فقد كان يوري رجلاً جدياً، وأما الآن فقد بدا وكأنه أكبر من عمره الحقيقى بسنوات، لما اعتراه من الإعياء والإرهاق والقلق بشأن السلاح الذي كان يشترك في إنتاجه.

وعندما شاهد يوري القنابل الذرية تدمر المدن اليابانية، قرر بأن هذه الأسلحة من الخطورة بحيث يتوجب عدم إنفراد أمم من دون غيرها بالسيطرة عليها. واعتقد أن الإشراف الدولي يشكل الحائل الوحيد من دون إساءة استعمال القنابل الذرية التي في مقدورها إفناء المجتمع الحديث. وعلى الرغم من أن يوري ساعد في تكوين القنبلة الذرية، إلا أنه لم يرزح تحت وطأة الشعور بالإثم. وقد قال: “إن الطاقة الذرية موجودة في الطبيعة، ولا يمكن إخفاؤها. ولا قبل للعلماء بمنع الحروب الحديثة برفضهم القيام بالأعمال العلمية. وما من حل لذلك إلا الحل السياسي”.

محاولته السلمية

وعليه طفق الدكتور يوري يخاطب السياسيين . ولم يكن قد جبل من طينة المتاجرين بالتأثيرات السياسية ولم يكن يشعر بالارتياح حين يتكلم في غرف لجان الكونجرس، ولكنه عبر عما في نفسه إذ قال: «إنني متيقن من أن القنبلة تستطيع أن تقضي على كل ما هو عزيز لدينا، وتساورني بسبب ذلك رهبة تفسد علي عملي”. حدث تلك الأسباب بالدكتور يوري إلى مواصلة حملته الكلامية. وقال محذراً بأن ليس لأمريكا أي احتكار للأسلحة النووية أو أية أسرار حقة أو قدرة على الدفاع. وهكذا دافع عن الرأي القائل بأنه على أمريكا أن تصبح جزءاً من عالم واحد وإلا فقد لا تغدو جزءاً من أي عالم.

دراسة الفضاء

وحين وضعست الحرب أوزارها اتصف عمل هارولد بوريا البحثي بطابع جديد. ففي معهد أنريكو فرمي في شيكاغو وفيما بعد في جامعة كاليفورنيا، تناولت دراسته مواضيع كالأشعة الكونية ودرجات حرارة الأرض في عصور ما قبل التاريخ وأصل الأرض والقمر وتكوينهما. وعين في العام 1958 في لجنة العلم الفضائي التابعة لمجلس الأبحاث القومي، وهي اللجنة التي تعالج قضايا الأبحاث الفضائية في الولايات المتحدة وتقدم هذه الأبحاث.

وقد نشرت نظرية هارولد يوري حول القمر وتكوينه سنة 1959. فرسم القمر رسماً يختلف اختلافاً جذرياً عما اعتاد العلماء عليه في الماضي. إلا أن الصورة التي رسمها تنسجم مع المعلومات الحديثة العهد . فلعدة سنين خلت اعتقد الفلكيون بأن القمر جسم بارد لا حياة فيه. ولكن في 1956 لاحظ فلكيون من روسيا وإنجلترا والولايات المتحدة سحابة على سطح القمر، أكد التصوير الطيفي أنها غاز منبعث من فوهة بركان وتقول نظرية يوري التي توصل إليها بمساعدة فيزيائيين آخرين من جامعة كاليفورنيا هما ولتر م. الساسر وم . ج . روتشستر، بأن القمر مؤلف من كتل مختلفة الكثافة لم تنصهر أبداً، وإن كان الأمر كذلك، فإن بعض أجزاء القمر الداخلية تكون أكثف من بعضها الآخر، مشكلة بذلك كتلة باطنية ساخنة وسطحاً غير مستقر، قد يفرز بعض الغازات أحياناً.

وإن دراسة القمر البعيدة كل البعد عن عالم الحيوان . فإن حياة هارولد يوري العلمية التي استهلها بعلم الحيوان شملت فيما بعد الفيزياء والكيمياء وثم تفرعت حتى باتت تشمل علم الفيزياء الفلكية. وإن منجزاته المتعددة المتشعبة لتساهم في دحض النظرة الشائعة في أيامنا القائلة بأن العلم الحديث قد بلغ من التعقيد حداً استحال معه أن يتطرق أي امرىء إلى موضوع خارج حدود اختصاصه المعين.

Loading

اترك تعليقاً