تسونغ داو لي وتشن نَنْغ يانغ الحائزان على جائزة نوبل

أعلام لا توجد تعليقات

في عام 1956 نقض شابان قانوناً، وفي السنة التالية منح هذان الشابان جائزة نوبل لنقضهما القانون.

وأما ناقضا القانون فكانا تسونغ داو لي (Tsung-Dao Lee) وتشن ننغ يانغ (Chen Ning Yang) الفيزيائيين. ولد الفيزيائيان في الصين وقَدِما إلى الولايات المتحدة بغية الدراسة عندما كانا في العشرين من العمر وبعدها بعشر سنوات أثبتا فساد قانون التناظر الذي كان ركيزة من ركائز علم الفيزياء الأساسية. 
وعندما نال لي ويانغ جائزة نوبل كانا في مستهل العقد الرابع من العمر (وكان لي في الحادية والثلاثين، ما جعله الثاني من حيث حداثة السن بين الفائزين بجائزة نوبل). وكانا رجلين ضئيلي البدن قصيري القامة، يتميزان بوجهين نضرين خاليين من التغضن. 
وعلى الرغم من وجود أوجه شبه كثيرة بين العالمين، إلا أن شخصيتهما تختلفان اختلافاً بيناً، فيانغ شخص اجتماعي لطيف المعشر جم النشاط، ميال إلى المرح والأنس وطلق اللسان وحين يتحدث، تنطبع التعابير على ملامحه، وتتحرك أنامله الدقيقة بحركات رشيقة موضحة. ويبدو يانغ بجبهته العريضة وأنفه الدقيق ووجنتيه الممتلئتين أشبه ما يكون بطفل متحذلق. غير أن ذلك الانطباع يزول حالما يتكلم، فهو صريح العبارة وبعيد عن الخيال، يشعر من يتحدث إليهما بأنه يرتاح إلى معاشرتهما ومنادمتهما. 
وقبيل مغادرته الصين إلى الولايات المتحدة، اختار تشن لنغ يانغ لنفسه اسماً أمريكياً أول، لاعتقاده بأنه سيكون أسهل على لسان الأمريكيين من اسمه الخاص. وكان قد طالع ترجمة لحياة بنجامين فرانكلين فأعجب به بشكل كبير، ما جعله يختار اسم فرانكلين. وقد اختصر الأصدقاء الذين كونهم في أمريكا هذه التسمية إلى فرانك.غير أن تسونغ داو لي لم يقدم على اختيار اسم جديد لنفسه لدى قدومه إلى أمريكا، ولكنه مع ذلك حصل على تسمية جديدة. فلقد أطلق عليه معارفه لقب «ت. د.». ولأجل الوضوح، سيدعى الفيزيائيان من الآن فصاعداً في ترجمة حياتيهما هذه “فرانك يانغ” و”ت. د. لي”. 

تسونغ داو لي خلال مقابلة تلفزيونية في عام 2007، المصدر موقع جائزة نوبل

وأما ت. د. لي ذو الوجه الطفولي فمرهف الحس متحفظ السلوك. ولا تمتاز ملامحه بمقدرة على التعبير بدرجة يانغ، ولكن ما من شك في أنه وسيم الوجه. وفيما عدا حاجبيه الكثيفين البارزين، فإن قسمات وجهه متناسقة التكوين دقيقته، كقسمات تماثيل البورسلين الصغيرة. 
وحين يسأل لي عن رأيه في شيء لا يمت بصلة الفيزياء، فإنه يمتنع على الأغلب عن الإدلاء بأي حكم. كما أنه يتجنب الحديث عن حياته الشخصية، والسبب في ذلك يرجع من ناحية إلى أنه يعتقد بأن ليس ثمة في حياته ما يمكن أن يهم الآخرين. ويبدو للشخص الذي يقابله لأول مرة أشبه بالفتى الخجول في صف تعليم الرقص، قلقاً ومتململاً بعض الشيء في اتصالاته الاجتماعية التي لا تروق له كثيراً. وتطابق شخصية لي إلى حد بعيد شخصيته الفعلية – شخصية المفكر. غير أن يانغ يملك مقومات الإداري ورجل الأعمال، إضافة إلى مقومات المفكر. 

مُنح “ت. د. لي” و”فرانك يانغ” جائزة نوبل عام 1957، أي قبل مضي سنة كاملة على قيامهم بإثبات خطأ قانون التناظر، فكانت المنحة من أسرع الاعترافات بالأهمية في تاريخ منح نوبل. 
ومع أن لي كان في الحادية والثلاثين من عمره ويانغ في الخامسة والثلاثين حين نالا جائزة نوبل في الفيزياء، فإن حداثة سني الفائزين لم تكن مبعث دهشة واستغراب لدى العلماء الآخرين. فإن الأغلبية الساحقة للفيزيائيين الذين نالوا جوائز نوبل فيما مضى إنما نالوها لمنجزات كانوا قد قاموا بها قبل الخامسة والثلاثين من عمرهم. (وما يقارب الثلاثين في المائة منهم أحرزوا جوائز نوبل لأعمال قاموا بها قبل سن الثلاثين؟) وقد يعود السبب في ذلك إلى أن المنجزات المتفوقة في عالم الفيزياء في السنوات الأخيرة كانت نتيجة ضرب من الإلهام الفذ أكثر ما كانت نتيجة لمعلومات يستغرق جمعها العمر بطوله. وما يدعو للدهشة أكثر من حداثة سنهما إن لي ويانغ كانا أول عالمين من الصين فازا بجائزة نوبل. فلم يظهر قبلهما أينشتاين أو فيرمي من أصل صيني، كما لم يظهر رجال صينيون على شاكلة غاليليو ونيوتن قبل أن عُرفت جوائز نوبل. فلطالما آثر أهل الصين فن التصوير والكتابة والفلسفة على العلم، وسلكوا جادة التأمل الهادئ وأغفلوا حقل التجارب الفعال. كما أن العلم ما كان ليحرك ساكناً لدى أكثرية الشعب الصيني الساحقة حين كان لي ويانغ لا يزالان حدثين. وعلى سبيل المثال، فإن مشاريع «اصنع بنفسك» لم تحظ بأية شعبية في الصين، وكان فرانك، الذي كان مشتركاً بمجلة شبيهة بمجلة «الميكانيك الشعبية» يجد صعوبة كبيرة في العثور على بعض المواد التي كان يحتاج إليها لبعض أشياء كان يرغب في تركيبها. فليس ثمة حظائر لأنواع من الأخشاب المصفحة كما لم تتوفر لا كتب تشرح كيفية تركيب مثل هذه الأشياء. ولما كان الأهل لا يستمرئون مثل هذه المشاريع، فإنهم لم يتقدموا بإسداء النصح أو بتزويد القروض المالية اللازمة. وقد قام بائع مرة بالتعاون مع أحد الأصدقاء بتصميم آلة عرض الصور المتحركة، إلا أنه تعذر عليهما إيجاد الأدوات اللازمة أو ورشة يتمكنان من العمل في داخلها، فاضطرا إلى ترك المشروع، وقنعا بتركيب عارض لصور ساكنة، واستطاعا على حد قول يانغ، إنتاج عدد لا بأس به من ذلك النوع. إن الدكتور يانغ الأنيس المعشر معجب كثيراً بما يتاح أمام الأحداث من فرص في الولايات المتحدة لصنع الأشياء بأنفسهم، فيقول: «حين يصنع المرء بيديه يكتسب نظرة في إنجاز الأعمال لا تقل أهمية عن اكتساب المهارة”. 

استعاد يانغ تشن نينغ الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1957 جنسيته الصينية في عام 2017 حيث بلغ من العمر حينها 94 عاماً. المصدر: الجامعة الصينية في هونغ كونغ

وكان فرانك يانغ في السابعة من عمره حين انتقلت أسرته إلى بايبنغ، وهي إحدى مللنا الصين الكبرى الشمالية. وقبل ذلك كان فرانك قد ولد عام 1922 في بلدة هوفاي الصغيرة من أعمال مقاطعة انهواي. وفي بايبنغ عاش حياة تختلف كل الاختلاف عن حياة سائر الصينيين، فقد كانت الغالبية الساحقة من أهل الصين في ذلك الوقت تقاسي أهوال المجاعة، كما كانت تدور معارك ضارية متتابعة بين أمراء الحرب. وكانت المجاعات وقتال الشوارع أحداثاً مألوفة في الحياة اليومية لمعظم سكان بايبنغ . أما فرانك فقد نما وترعرع خارج ذلك النطاق كله بالمعنى الحرفي. فقد كان بيته والمدرسة التي انتسب إليها قائمين في باحات جامعة تسنغ هوا، الواقعة خارج أسوار المدينة. لأن والده، كوتشوان يانغ، كان أستاذ رياضيات في الجامعة، فنشأ أولاد يانغ على غرار سائر أولاد الأساتذة وتلقوا تعليمهم في باحات الجامعة المنعزلة الهادئة. وكانت المشاكل التي تواجههم في ذلك الجو مشاكل الفلسفة والرياضيات والأدب، لا مشاكل المحافظة على الحياة. 

إن معظم رجال العلم والأدب في الصين ينحدرون من سلالات عريقة في القدم لأسلاف كانوا هم كذلك من أرباب العلم. ولا يعرف فرانك إن كان ذلك ينطبق على أسرته أيضاً، إذ اندثر كل ذكر لأسلافه في أواسط القرن التاسع عشر. إذ كانت قد شبت إذ ذاك ثورة عامة جامحة ضد المانشو، الأسرة المالكية في الصين في تلك الحقبة، وقد زُهقت أرواح نصف السكان تقريباً في بعض المناطق. وكان جد فرانك الأكبر الوحيد من بين جميع أفراد الأسرة الذي تمكن من الهرب من قريتهم، حيث كان القتال عنيفاً حاداً. وفي سنته الأولى في باينبغ اكتشف فرانك الرياضيات. وكان في السابعة من عمره، وكان كبير أولاد يانغ الخمسة، وكثيراً ما كان والده يحدثه عن مسائل علمية، وحين تبين للصبي مقدار المتعة التي ينطوي عليها العالم، شرع يقوم بالمطالعات العلمية وحدها. وتوجه القسط الأكبر من اهتمامه إلى الرياضيات، ويعود السبب في ذلك، من ناحية، إلى تأثير والده. فاعتقد فرانك أنه سيصبح رياضياً يوماً ما كذلك. ولم يعدل فرانك عن تفكيره إلا حين أن الوقت لالتحاقهبالجامعة. فعكف إذ ذاك على دراسة الفيزياء استعداداً لتقديم فحص الدخول للجامعة، وفيما كان منصرفاً إلى حشو دماغه بالمعلومات، تبين له أن الفيزياء تجتذبه أكثر من الرياضيات، فوطد عزمه على أن يصبح فيزيائياً. حين كان فرانك في الخامسة عشرة من العمر غزا اليابانيون القسم الشمالي من الصين وغدت باينبغ القريبة من الساحل الشمالي مهددة بالخطر. فنقلت الجامعة، التي كانت بمنزلة بيت الأسرة يانغ كما كانت مصدر دخلهم المالي، إلى مدينة كونمنغ الواقعة جنوبي الصين الغربي، وكانت أكثر بعداً وأماناً. وانتقلت معها أسرة يانغ، فقطعت الصين بطولها للوصول إلى “كونمنغ”. وانضمت جامعة تسنغ هاو هناك إلى جامعتين أخريين، كانت قد نقلتا إلى كونمنغ طلباً للنجاة من اليابانيين، وكونت الجامعات الثلاث معاً جامعة واحدة تحت اسم جامعة الجنوب الغربي الوطنية المتحدة. واستأنف والد فرانك عمله في الجامعة المؤلفة حديثاً كما التحق فرانك للدراسة فيها. ولم يصل الجيش الياباني قط إلى كونمنغ، غير أن المدينة ضربت بالقذائف مراراً متعددة. وتهدمت في الجامعة قاعات الدروس، كما امتلأت الباحات بالثغرات التي أحدثتها القذائف. وسقطت إحدى القذائف في وسط ساحة بيت يانغ، ولكن أفراد العائلة لحسن الحظ كانوا في تلك اللحظة خارج البيت فلم يصب أي منهم بأذى. وكان ثمة طالب فيزياء آخر في الاتحاد الجامعي في كونمنغ، وذلك هو “ت. د. لي” الشديد الحياء، والذي أصبح بعد ذلك صديقاً لفرانك يانغ وشريكاً له في العمل. وكان الغزو الياباني قد دفع لي كذلك إلى اللجوء إلى كونمنغ . 

وعلى الرغم من أن “ت. د.” ينتمي كفرانك، إلى أسرة ميسورة الحال نسبياً، بيد أنه كان قد تعرض أكثر منه إلى الفوضى التي عمت الصين في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين. ولد “ت. د.” في شانغهاي سنة 1926، وكان ثالث ستة أولاد، بينهم فتاة واحدة. وكان والده تسنغ – كونغ لي رجل أعمال، وبسبب ذلك لم ينشأ “ت. د.” في جو جامعي منعزل مأمون. فمن جملة ذكرياته مثلاً مدرسة كان ملتحقاً بها في مقاطعة كيانغسي خلت من الأساتذة بسبب الحرب. ومع ذلك كان الأولاد يحضرون إلى المدرسة يومياً ويدرسون وحدهم. وقد قال معلقاً: «كان كل منا معلم نفسه». ويذكر لي كذلك أنه كان في عهد صباه يلتهم القصص المتسلسلة، وكانت أشبه ما يكون بمزيج من «سوبرمان» و «روبن هود». وكان لأبطال هذه الروايات قوى سحرية إذ يسلبون أموال الأغنياء كي يوزعوها على الفقراء. 
وكانت مغامراتهم الخيالية مستمدة من زاوية حديثة العهد نوعاً في تاريخ الصين – النشاط السري للفصائل الثورية القوية التي كانت تحارب ضد أسرة المانشو، والتي أيدت فيما بعد حكومة تشانغ كاي تشك. وما برح “ت. د. لي” مغرماً بالمطالعة ترويحاً عن النفس وكثيراً ما كان يختار في مطالعاته رواية بوليسية ويقول: «حين تكون الرواية جيدة، لا أستطيع أن أتكهن من عسى يكون مرتكب الجريمة». ويستمتع كذلك بالإصغاء للموسيقى «إذا كانت من النوع غير الصاخب). وعلى غرار فرانك يانغ كان “ت. د.” يطالع الكتب العلمية في صباه، وقد قرر أن يصبح فيزيائياً عندما التحق بالجامعة. ويقول أن قراره قد تم نتيجة لاستعداده وميله الخاص فحسب غير متأثر برأي أي شخص أو شيء آخر. لقد كانت حياة لي ويانغ تختلف اختلافاً بيناً حتى التحقا بجامعة كونمنغ بيد أنها منذ ذلك الحين أخذت تلتقي وتتحد. وفي بعض النواحي أصبحت حياة الواحد منهما مشابهة لحياة الآخر بشكلٍ كبير.

فكل منهما متزوج من امرأة صينية في مقتبل العمر تعرف إليها في الولايات المتحدة (واسم زوجة لي قبل الزواج هو “ي – تشونغ تشين”). وقد تخصصت السيدة يانغ والسيدة لي في الأدب الإنجليزي في دراستهما الجامعية. وولد لكل من الأسرتين صبيان، لم يكن الواحد منهما يعرف الآخر حين كانا في الجامعة في كونمنغ وفي سنة ١٩٤٥ نال فرانك يانغ زمالة دراسية مكنته من الذهاب إلى الولايات المتحدة لإتمام دراسته هناك. وفي السنة التالية حاز لي أيضاً على زمالة للغاية نفسها. وقد وقع اختيار الشابين على جامعة شيكاغو، وهناك تقابلا لأول مرة. وقد كانت تراودلي الذي يبدون أنه أكثر ميلاً للتجوال من يانغ، فكرة الانتقال إلى جامعة ميشيغان، وإذا به يقابل يانغ. وكانت تلك المقابلة من الأسباب التي جعلته يعدل عن رأيه، وقد قضى مثل يانغ أربع سنوات في جامعة شيكاغو، وأنه لما يسهل الأمور على الرجلين، ويزيد في سعادتهما أن يكون كل منهما قريباً من شخص قادم من موطنه، يتحدث لغته نفسها ويعمل في حقله نفسه. وفي شيكاغو، بدأ لي ويانغ سلسلة أحاديثهما ومناقشتهما التي أدت إلى عملهما في قانون حفظ التناظر. وكان من نتائج أحاديثهما أن تعلم كل منهما لغة الآخر – ليس الصينية أو الإنجليزية بل لغة الفيزياء فغدا كل منهما يفهم معالجة الآخر للمسألة، ومعنى الكلمات التي كان يستخدمها. لقد تعلم كل منهما «أسلوب» الآخر. والأسلوب عامل من العوامل المهمة بالنسبة إلى الفيزيائي كما هو بالنسبة إلى الفنان. وقد قال لي في هذا الصدد: تختلف طرق المعالجة، أو الأساليب، لدى الفيزيائي تماماً كاختلافهما لدى الفنان. ومن الممكن – بل كثيراً ما يحدث – أن يكون الأسلوب فجاً وضعيفاً ولكن الاستنتاج يكون مصيباً». وقد خص لي ويانغ بالإطراء من قبل العلماء الآخرين لرشاقة أسلوبهما. ومعنى ذلك أنهما سلكا أفضل الطرق الممكنة لبلوغهما الهدف وأنهما استقصيا هذه الطرق أو البراهين بدقة وعبقرية ومن دون تبديد الجهود، لقد كان إنريكو فيرمي الأستاذ الذائع الصيت هو الذي درّس لي ويانغ في جامعة شيكاغو. وكان الطالبان شديدي الإعجاب بفيرلي لمتانة خلقه واستقامته وكذلك لعمله. (وثمة صورتان فقط معلقتان على جدران مكتب يانغ حالياً، إحداهما لأينشتاين والأخرى لفيرمي). وبعد مضي بعض الوقت على مغادرة تلميذي فيرمي الصينيين لجامعة شيكاغو، ساهما في حل مسألة شائكة كان أستاذهما قد أثارهما.
فلربع قرن خلت، كان إنريكو فيرمي قد تقدم بأول وصف شامل للتفاعلات الضعيفة التي تنطوي عليها العملية النووية المعروفة بانحلال البيتا. ولم يكن إذ ذاك قد أجرى سوى القليل من البحث الاختباري، ولم يكن يُعرف عنها سوى النزر اليسير. وقد استند فيرمي في وصفه لها إلى الرياضيات وإلى ضرب من ضروب الحدس. كما أنه أشار إلى المسألة المعقدة المتوجب حلها قبل أن يغدو في الإمكان وصف هذه التفاعلات وصفاً دقيقاً. وقد ظلت الاختبارات والتجارب تجري مدة عشرين عاماً سعياً لحل تلك المسألة والتوصل إلى تفهم مضبوط لانحلال البيتا. ولكن على الرغم من أن التجارب راحت تزداد براعة ودقة على مر الأيام فإن جميع المساعي لإيجاد الحل قد فشلت. وإذ بلي ويانغ يتقدمان بالاقتراح القائل على أن التناظر قد لا يحفظ في التفاعلات الضعيفة. وحين ثبت أن ذلك هو واقع الحال افتتح حقلا للاستقصاء واسع المدى كان مغفلاً حتى ذلك الحين. وتلاه استقصاء واسع شديد للتفاعلات الضعيفة، ولا سيما انحلال البيتا، وفي النهاية حلت مسألة فيرمي ولشدة دهشة الفيزيائيين تبين أن وصف فيرمي لانحلال البيتا الذي مضى عليه خمس وعشرون سنة يطابق إلى حد بعيد دلائل المختبر. 

وحاز لي ويانغ على شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو. وبعد أن أصبح فرانك يحمل لقب دكتور في الفيزياء شر لمرسي مدة سنة في الجامعة، بينما تخصص “لي” لبعض الوقت في الفيزياء الفلكية، أي فيزياء الأجرام السماوية، فقام بالأبحاث في مرصد بيركس الفلكي في وسكونسن، وأما “لي” المحب للتجوال، فقد ذهب إلى الساحل الغربي حيث درس كما قام بمزيد من الأبحاث في جامعة كاليفورنيا في بركلي.

وعاد الرجلان فاجتمعا ثانيةً عام 1951 في معهد الدراسات العالية في برنستون، نيوجرسي، والمعهد، الذي يعرف اختصاراً بأحرف “م . د. ع .”، مكان هادئ في الريف حيث يتقاضى العباقرة رواتب لأعمال الفكر في الأمور التي تستأثر باهتمامهم، ولا يراقب عمل هؤلاء الرجال، أو الأعضاء كما يعرفون رسمياً، وليس لأحد القول فيما يجب أن يقوموا به من أعمال أو طريقة العمل التي يتبعونها. وأما مدير المعهد فهو روبرت أوبنهايمر الفيزيائي المرموق، إلا أنه يعمل هناك كمستشار فقط، كي يضمن سير الأمور في مجراها بانتظام وعدم تكلُّف.
وحين يصل أحد الأعضاء – وقد يكون عالم أثريات، أو مؤرخ أو رياضي أو فيزيائي – إلى نقطة في عمله يشعر عندها بأن لديه ما يستحق إطلاع الآخرين عليه فإنه يعلن عنه على لوحة الإعلانات ومن ثم يقوم بعرضه في حديث غير رسمي. وهذا هو مبلغ التعليم الذي يقوم به أي من الأعضاء، إذ أن هدف ال “م. د. ع.” هو إتاحة الفرصة للأعضاء لصرف كل جهودهم ووقتهم في عملهم، ورفع عبء التعليم – وهو المهنة التي تمتهنها غالبية البخاثة لسد أودهم وأود عائلاتهم – عن كاهلهم .

ويمول معهد الدراسات العالية عن طريق منحة خاصة قدرها خمسة ملايين دولار. وتلك منحة، وإن كانت مسرفة إلى حد ما، فإنها مجدية تؤتي ثمارها، إن اتخذنا التاريخ عبرة ودليلاً. فالكهرباء والأشعة السينية ونظريات الديناميك التي تشكل جزءاً أساسياً للحضارة المتصفة بالتصنيع – كانت جميعها نتيجة البحث المجرد وغير التطبيقي . فلم يكن هدف الرجال الذين قاموا بهذه الاكتشافات إنتاج أشياء مفيدة، بل كانوا يستهدفون المزيد من المعرفة فحسب.

وهناك اليوم زهاء مائة عالم وبحاثة في معهد الدراسات العالية، وبعضهم يقضي فيه سنة أو ما يقارب ذلك بصفة زوار، وأما بعضهم الآخر فأعضاء دائمون ويمكنهم الإقامة هناك بقدر ما يشاءون. وكثيرون من هؤلاء الرجال يتقاضون أجراً مقابل التفكيرهم» المجرد، شباب يمتازون بوسامتهم وقواهم البدنية، وهم على جانب من النشاط، ولعلهم أنشط ما ينبغي، إذ أنك تجد إلى جانب الإعلانات القليلة المعلقة على لوحة الإعلانات في المعهد، رسالة أخرى من رئيس الشرطة في برنستون، تحذر الأعضاء بلهجة مهذبة ولكن صارمة من الإسراع في السير في منخفض تلة واقعة بالقرب من المعهد ويضيف رئيس الشرطة قائلاً بأنه في حال استمرارهم في تجاوز السرعة المحددة للسيارات فسيجد نفسه مضطراً لنصب «فخ» يكبح سرعة هؤلاء المتجاوزين.

ويقيم فرانك يانغ، الذي غدا الآن حاملاً للقب «أستاذ»، في المعهد، في غرفة مشمسة واقعة في إحدى زوايا ذلك البرج البالغ السمو. وقد يُطِّل هناك من نافذته في يوم من أيام الربيع فيشاهد بعضاً من الأعضاء يتبادلون الحديث وهم يتمشون في الباحات الواسعة الخضراء، وبعضاً آخر يتلهى بقذف صحن البلاستيك ولقفه، وعن بعد حصان يرعى العشب.
إن غرفة يانغ لفي غاية البساطة فليس فيها سوى مكتب ورفا للكتب وبعض المقاعد وطاولة عليها بعض أعداد مجلة نيويوركر، وهو يعمل في هذه الغرفة حينما لا يكون في نيويورك، التي تبعد ساعة في القطار. ولا يزال كثير التردد على نيويورك، يقصدها كي يرى ت. د. لي، الذي انتقل الآن إلى جامعة كولومبيا، ليعمل أستاذاً فيكون أصغر من نال رتبة أستاذ سناً في الحقبة الأخيرة. 

ومع أن فرانك يعمل في برج عاجي، إلا أنه في حقيقة الأمر لا يعيش في عزلة عن العالم أو الناس. وقد خابره بعض الطلاب الثانويين من مدينة مجاورة يلتمسون منه غرضاً فسألوه إن كان لا يمانع في الاجتماع بهم في أوقات منتظمة كي يلقنهم بعض مواد في الفيزياء أعلى ما كانوا يتلقونه في المدرسة. 
فوافق يانغ على ذلك من دون تردد، وظل يجتمع بالطلاب بانتظام مدة من الزمن ولمح فيهم الذكاء كما وجد متعة في تدريسهم بيد أنه لمس في موقفهم شيئاً بعث في نفسه القلق والانزعاج، ولا يزال هذا الشعور يساوره إلى الآن. فقد كان الطلاب مدفوعين بالشوق والرغبة لتعلم كل شيء يمكن تطبيقه عملياً أو تركيبه، إلا أنهم كانوا منعدمي الاهتمام بقوانين الفيزياء المجردة»، ويتلخص موقفهم كما يلي: ما الداعي للاهتمام بالعلم المجرد؟ فإنه لعلى جانب من الصعوبة، وعلى كل، فثمة أشياء أخرى عملية ممتعة يمكنهم أن يتعلموها عوضاً عنه.
وإن ذلك الموقف إزاء العلم، الشائع في أمريكا في رأي يانغ، هو عكس الموقف السائد في الصين. فهناك يحتقر الناس العالم العملي التطبيقي والعمل اليدوي. وتنطوي فلسفتهم على «عدم القيام بالعمل بنفسك» وأما في أمريكا فيبدو أن العلم النظري والعمل الذهني الصرف هما اللذان يعتبران أقل أهمية. ويعتقد فرانك يانغ يان بأن الموقف الوسط بين هذين الموقفين يشكل موقفاً أسلم وأصح. ويرى يانغ أن الشباب في أمريكا يعطون ملء الحرية للقيام بأي عمل يستأثر بأكبر قسط من اهتمامهم. وقد يكون ذلك في اعتقاده ذا عواقب وخيمة، إذا ما حاول الطالب دوماً تجنب ما يبدو ظاهرياً عملاً مرهقاً.

ويقول فرانك يانغ في هذا الصدد: «ليس من الكافي أن يكون المرء شديد التعطش ومحباً للاستطلاع. فعليه كذلك أن يجلس ويحاول تعلم قوانين اللعب. فإنه ما لم يستغرق كلياً في التدريب والانضباط الذهني اللازم فسيتعذر عليه القيام بشيء ما). 
وذات صباح في أيار (مايو) عام 1956 شرع لي ويانغ في معالجة قانون حفظ التناظر، أحد قواعد الفيزياء الأساسية. وينبثق ذلك القانون عن القانون القائل بتعذر التمييز بين الجانبين الأيمن والأيسر للأشكال الطبيعية وعلى أنهما متماثلان. ويسهل بالطبع تمييز اليمين عن اليسار في الحياة اليومية، ولكن بعض الأشياء – ومثالاً على ذلك الجسم البشري الواقع قلبه في الناحية اليسرى – لا تبدو متماثلة إطلاقاً. إلا أن حالاً كهذه لا تتعارض مع مبدأ تماثل اليمين واليسار، إذ أن ما يهم الفيزيائيين هو الطريق التي تسلكها الأشياء في عملها. فبإمكانهم تخيل أجناس بشرية تكون قلوبها في الطرف الأيمن من أجسامها. ويقول الفيزيائيون أن أجسام هؤلاء الناس ستقوم بأعمالها مثلما تقوم أجسامنا بوظائفها. وكون قلوبنا في اليسار مجرد صدفة بيئية، وليس دليلاً على انعدام أساسي للتماثل أو اللاتماثل كما يدعي. 

وهكذا ظل الفيزيائيون حتى عام 1957 لا يساورهم أدنى ريب في أن المادة الموضوعية التي كانوا يدرسونها كانت دوماً في جوهرها مادة متماثلة.
وأطلقوا على القانون المشتق من هذا المبدأ القانون حفظ التناظر». وحين نقض لي ويانغ هذا القانون حررا الفيزيائيين من تلك الأفكار المكبلة التي ما فتئت تعرقل تقدمهم لمدة من الزمن. ونتج عن ذلك فتح مجال جديد لحرية الفكر. وقد ينتج عن ذلك نظرية توحد في نظام منطقي مفهوم المعلومات المتناثرة عن عالمنا التي في حوزة العلماء في الوقت الحاضر، وقد تعلل هذه النظرية تكوين الكون وتركيبه وتصل بين النظام الكوني الدقائق داخل الذرة وبين أجرام الفضاء الخارجي. 
وحين يهم فيزيائيان بالإطاحة بأحد قوانين العلم الأساسية، فماذا تراهما يفعلان؟ وما هي السبل التي ينتهجانها؟ إن الصورة التي تتبادر إلى الذهن أولاً صورة محفوفة بالوقار والروعة عالمان متشحان بمعطفين أبيضين داخل مختبر عظيم الاتساع بالغ النظافة دائبان على تشغيل أميال من الأجهزة المعقدة، أجهزة تبدو كما لو أن الدكتور سويس قد استنبطها من عقله الجبار. ويعصر العالمان الخياليان تفكيرهما في تجارب عويصة وحسابات معقدة، لا يتكلمان إلا لماماً، وإن تكلما فعن طريق المعادلات فقط. وينم وجههما عن الثقة والتفاني. ولا ترتفع أصواتهما في الضحك أو الخيبة أو الجدال. فهما، كأبطال الروايات المتسلسة المصورة، لا يدركهما الهرم أبداً. وكالرجال الآليين، يتابعان نظاماً روتينيا صارما متواصلا. 
وتلك الصورة بعيدة كل البعد عن الصواب في كل مظهر من مظاهرها تقريباً. فقد أتم تسونغ داو لي وتشن ننغ يانغ القسم من عملهما في ظرف شهر تقريباً. ولم يستخدما أية آلة أو جهاز أو أداة، هذا فيما عدا القرطاسية والأقلام، ولقد باشر العمل في قانون حفظ التناظر أول ما باشرا في مطعم صيني في نيويورك، حيث كانا يتناولان الشاي، وبعدها كانا يعملان حيث شاءت المصادفة أن يكونا في البيت أو في المكتب، في أثناء سيرهما في الباحات أو وهما راكبان في قطار تحت الأرض. 
وكثيراً ما كان الفيزيائيان يعمدان إلى الهاتف. وكانا في أحاديثهما الطويلة هذه يقابلان ملحوظاتهما ويدققان فيما نما إلى مسامعهما من شائعات ويتجادلان، وكانا يستأنفان الجدال حين يجتمعان لمناقشة عملهما. وأما الناس الذين كانت تصل هذه المناقشات إلى مسامعهم، فكانوا يقولون أنها كانت مجادلات عالية الصوت.

ولعل أبرز اختلاف بين صورة ذهنية ليانغ ولي في أثناء العمل وبين الحقيقة الأصلية يتجسد في مظهر هذين الرجلين الخارجي. 
فيبدو للناظر أنهما أحدث سناً عمّا هما في الحقيقة، ومن السهل أن يخطئ ويظنهما طالبين في الصفوف العليا من مدرسة ثانوية. وقد يبدو لي فتى في الخامسة عشرة من سنه، الأمر الذي قد سبب بعض الإحراج للأساتذة زملائه. 
حين عرج ويانغ ذات يوم في أوائل أيار (مايو) سنة 1956 على مطعم صيني، لم يدر في خلدهما بأنهما سيبلغان أهم قرار في حياتهما قبل مغادرتهما المطعم – قرار سيترك أثراً عميقاً ومقلقاً في عالم الفيزياء. وكان الرجلان قد قصدا المطعم بغية تناول الشاي فقط ريثما تفرع فسحة لإيقاف سيارة يانغ. وكان يانغ قد قاد سيارته قاصداً نيويورك في ذلك النهار من مختبر بروكهافن القومي في لونغ آيلند. وكالمعتاد، تعذر عليه إيجاد فسحة لإيقاف السيارة في المدينة فترك سيارته أمام المطعم لبعض الوقت. 
وفيما كان لي ويانغ يحتسيان الشاي، راحا يتحدثان عن أسئلة ما فتئت تقض مضاجع العلماء في جميع أنحاء العالم لحقبة من الزمن، وهي مشكلة أطلقوا عليها اسم «أحجية التاوثيتا The Tau-Theta PUzzle». 
في أثناء السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، كانت قد طورت مسارعات (Accelerators) في مقدورها تحطيم النواة الذرية وإطلاق الدقائق المتألفة منها، ما جعل في قيد الإمكان دراسة النواة بصورة تفصيلية أعظم ما جرى من قبل إطلاقاً. وقد كشفت هذه المسارعات مع البحوث التي أجريت في الأشعة الكونية، عن عالم جديد للدقائق الأولية الموجودة داخل النواة، وكيف أن بعض هذه الدقائق توفر الطاقة التي تجعل النواة تتماسك كما أنها تبين سبب استقرار المادة.

وحتى عام 1937 كان الفيزيائيون يظنون أن هناك أربعة أنواع من الدقائق فقط داخل الذرة، الإلكترون، البروتون، البوزيترون والنوترون، ولشد ما كانت دهشتهم حين استمرت اكتشافاتهم للدقائق، إلى أن أضحى لديهم مجموعة من الدقائق بلغ عددها الثلاثين فراحوا يتساءلون: ترى ما علة تلك الأنواع المتعددة من الدقائق. وما القصد من كل منها؟ وبلغت دهشة الفيزيائيين حداً طفقوا معه يلقبونها «بالدقائق الغريبة». وكانت التاو والثبتا من بين الدقائق الغريبة التي لم تكن تسلك وفقاً للقوانين العلمية المعروفة في عام 1956.
وتبين أن الدقيقتين تاو وثيتا، اللتين سميت باسم حرفين من أحرف الهجاء اليونانية، متطابقتان من جميع النواحي ما خلا واحدة. فإن كتلتهما وشحنتهما ومداهما الحياتي متطابقتان جميعاً ووجهتا الاختلاف بينهما هو في تناظرهما فقط. والتناظر، وهو صورة ذهنية رياضية، يكون دوماً مزدوجاً أو مفرداً، وبموجب قانون حفظ التناظر، يستحيل أن يكون الاثنان في آن. ولذا فلا بد أن تكون تاو وثيتا دقيقتين مختلفتين، على الرغم من أن جميع الدلائل تشير إلى كونهما دقيقة واحدة، وواحدة فقط.
ولم يكن الفيزيائيون مقتنعين تمام الاقتناع بهذا الاستنتاج، فراحوا يتساءلون هل ثمة ما يوجب وجود دقيقتين، كل منهما صنو للأخرى في جميع خواصها ما خلا خاصة التناظر. ومثل تلك الظاهرة لم تكن قد شوهدت من قبل قط، وغدا الفيزيائيون يشكون في دقة الأبحاث التي أقامت الدليل على أن تاو وثيتا إن هما إلا دقيقة واحدة في جميع خواصهما تقريباً. وتساءل بعضهم فيما إذا كانت أحجية التاو – ثيتا تشير إلى عيب في قانون حفظ التناظر. ولكن ما من أحد من بينهم استطاع حل الأحجية. 
وقد عبر فرانك يانغ عن الموقف قائلاً بأن الشخص الذي يحاول حل مسألة التاو والثيتا كرجل يجد نفسه داخل غرفة مظلمة يتلمس مخرجاً. ويعلم تمام العلم أنه لا بد أن يكون ثمة منفذ في اتجاه ما يمكّنه من الخروج من مأزقه ولكن ما هو ذاك الاتجاه؟» وقد دلت تجارب لا متناهية العدد على أن قانون التناظر صحيح لا شبهة فيه. فقد كان يرتكز على مبدأ ظن أنه من المبادئ الأساسية الراسخة الحصينة. ولكن الأبحاث التي أجريت على التاو والثيتا في المختبرات كانت من ناحية أخرى دقيقة غاية الدقة. فثمة دلائل عديدة تدعو إلى الاعتقاد بأن خواصها قد اتخذت لها قياسات مضبوطة دقيقة. 
وشعر معظم الفيزيائيين أن الشك في البحث الجاري على التاو والثيتا أمر أقرب إلى المعقول من الشك في مثل هذا القانون الفيزيائي الأساسي. فالدقيقتان الغريبتان، إن هما إلا اكتشافات حديثة لم يدرك كنهها إدراكاً تاماً بعد. وأما قانون حفظ التناظر فقد مضى عليه ثلاثون عاماً صمد في أثناءها أمام التجارب واحدة تلو الأخرى. 
ولكن الحقل العلمي لا يعتبر القانون خليقاً بأن يحتفظ به ما لم يكن مجدياً. وكلما راح الدكتور لي والدكتور يانغ يمعنان التفكير في أحجية التاو – ثيتا، ازداد اقتناعاً بأن أبحاث المختبر بشأن الدقيقتين كانت أبحاثاً مضبوطة يمكن الركون إليها، وأن الخطأ قد يكون في قانون التناظر. 

وبينما كان العالمان يرتشفان أكواب الشاي بعد ظهور ذلك اليوم من أيار (مايو) اتخذ قراراً جريئاً: سينصرفان إلى استقصاء قانون حفظ التناظر كي يتبينا إن كان ينطبق على مجموعة من القوى تعرف (بالتفاعلات الضعيفة)، وهي مجموعة تنتمي إليها تاو وثيتا نظراً لمعدل سرعة تفككهما. 
وتتفكك التاو والثيتا – أو تنحل، في لغة الفيزياء – بمعدل سرعة بطيء «نسبياً». و «نسبياً» كلمة على جانب من الأهمية في الجملة السابقة. ففي الواقع أن انحلال التاو والثيتا يجري في ظرف ما يقارب جزءاً من مليون من الثانية (يمكن تتبع طريقهما بوساطة الصور الفوتوغرافية). إلا أن الجزء من المليون من الثانية يشكل وقتاً طويلاً للغاية في التفاعلات النووية. ولما كان الانحلال البطيء ينتج عن قوى ضعيفة تعرف الانحلالات الشبيهة بانحلال التاو والشيتا، (بالتفاعلات الضعيفة). 
وقبل مغادرتهما المطعم، اتفق لي ويانغ على إعادة النظر في التجارب السابقة التي أجريت للتفاعلات الضعيفة، كي يتبينا إذا كان ثمة دليل على انطباق قانون الناظر في هذا الحقل للقوى الكامنة الدقيقة.
وما لبث كل من الدكتور لي ويانغ إن سلك طريقه الخاص. فذهب لي إلى كولومبيا حيث كان أستاذاً، بينما عاد يانغ إلى مختبر بروكهافن القومي، حيث كان يقضي الصيف مع مسارع ضخم الحجم: الكوزموترون. وحيث انصرف العالمان إلى العمل. 
إن العمل في مثل حالتيهما يعني في معظم الأحيان التفكير، ويشكل هذا التفكير عملية متواصلة. فلا يتوقف بالضرورة حالما يغادر أحدهما مكتبه. فإن ت. د. لي مثلاً قد يجتاز باحات جامعة كولومبيا ويواصل السير في شارع برودواي، ويدخل القطار تحت الأرض من دون أن يشعر بما يحيط به من أشياء. كذلك قد يكون ذهن فرانك يانغ مستغرقاً في معطيات حول التفاعلات الضعيفة في أثناء تنظيف أسنانه بالفرشاة. 
وقد اعتاد أحد أصدقائه يانغ طرح السؤال التالي عليه عند اجتماعهما معاً: «هل نظفت أسنانك في المدة الأخيرة؟» وما يعنيه الصديق بذلك بالفعل هو: «ما هي الأفكار التي خطرت لك؟» وذلك لأن يانغ علق مرة وهما يشتغلان سوية قائلاً: «حين أقوم بتنظيف أسناني هذا الصباح خطرت لي فكرة». 
وطوال شهر أيار مايو، أكب لي ويانغ على دراسة التجارب ممعنين التفكير في الأدلة على حفظ التناظر في التفاعلات الضعيفة. وحين كان أحد العالمين يعثر على شيء يبدو على جانب من الأهمية، كان يخابر الآخر هاتفياً فيتناقشان حول الموضوع. كما استمرا يجتمعان بانتظام في مطاعم صينية غالباً، حيث كان ت. د. لي المتحفظ، المغرم بأطايب الطعام، يستمتع بالمزج بين تبادل الآراء وتناول غداء شرقي شهي. 
وكثيراً ما كان لي ويانغ يتجادلان حول أعمالهما العلمية في أثناء هذه الاجتماعات، ولكن على الرغم من شدة صراخهما، فإن جداولهما كان يلتزم صيغة غير شخصية، فالرجلان قد تبينا منذ عشر سنوات، حين راحا يتبادلان الأحاديث الجدية، أنهما يكتسبان الكثير عن طريق المجادلة. ونظراً لاختلاف بيئتيهما ومزاجيهما، فقد كان من الطبيعي أن يشدد كل منهما على أوجه مختلفة في مسألة ما (كما يفعل في الحال نفسها أي فيزيائيين أو أي شخصين آخرين). وتبين لهما أن نقاطاً جديدة تتكشف أمامهما من خلال الجدل، ويصبح كل منهما ذا تبصر أعتق في المسألة المطروحة للبحث. ويشرح فرانك ذلك بالكلمات الآتية: «يغدو باستطاعتنا مشاهدة أكثر من معالجتين للموضوع عن طريق الجدال). 

وأحياناً كانت طبيعة حب الجدل تدفع لي ويانغ إلى الانتصار لمواقف لم يؤمنا بها بالفعل. واكتشفا أنهما يجدان في الجدال متعة، ولا سيما إن كان موضوع الخلاف يتركز في أشياء ملموسة. فعاجلاً أم آجلاً تقوم إحدى التجارب أو الاكتشاف بتأييد رأي لي ودحض رأي يانغ أو العكس. 
وثمة سبب لميل ويانغ للجدال، وذلك هو مزاجهما، فمن الصعب اعتبار أي منهما شخصاً هادئ المزاج، وحين يقوم الاثنان بالعمل الذي يستمتعان به أكثر من أي شيء آخر – المعالجة الذهنية لموضوع علمي أو بسط نظرية – فقد تشتد حماستهما وتحتد. ومن الطبيعي أن تتخذ هذه الحماسة شكل الجدال والنقاش. 
وغير أن ذلك لا يعني أن لي ويانغ كلما اجتمعا سوياً للتناقش، اندفعا في جدال حاد محموم. وقد يصدف أحياناً أن يتبادلا المزاح والقصص الفكاهية. وتكشف إحدى قصص فرانك يانغ المحببة لديه عن الخيبة التي تصيب الفيزيائي حين يقصد رياضياً للاستعانة برأيه. فالرياضي لا يهمه استخدام الأرقام لإيجاد حل مسألة معينة، بل أنها تهمه كأرقام مجردة. غير أن الفيزيائي يعالج مشاكل ملموسة في العالم الواقعي. فإذا ما قصد رياضياً فما ذاك إلا أنه يبتغي مساعدته في مسألة واقعية محددة يتطلب الإجابة عليها. 

والقصة التي يرويها يانغ عن رجل يحمل رزمة كبيرة من الثياب المتسخة (ويمثل الفيزيائي الذي لديه مسألة مستعصية). ويجيل ذلك الرجل نظره باحثاً عن مكان لغسيل الثياب، من دون أن يجد ضالته. وأخيراً يبصر في شارع خلفي لافتة على أحد الأبواب: «هل تغسل الثياب، فيتوجه حالاً إلى المكان ويضع غسيله على المنضدة قائلاً: «هذه الثياب أود أن تغسل وتُكوى». 
ولكن الرجل المنتصب خلف المنضدة (وهو يمثل الرياضي) يحملق في الرزمة كما لو أنه لم يشاهد مثلها من قبل، ومن ثم يلتفت إلى الرجل مستفسراً، فيسأل صاحب رزمة الغسيل: «هذا مكان لغسل الثياب وكيها، أليس كذلك»؟ 
ويصدر الجواب التالي من خلف المنضدة: «كلا، هذا مكان لرسم اللافتاتى فقط». 

وحين يجتمع الفيزيائيان، فإن مزاحهما وتندرهما غالباً ما يدور حول المواضيع الفيزيائية، ولا تغرب تلك النقطة عن ذهن زوابنة الدكتور يانغ (تشي لي تو سابقاً) حين يعتزم إقامة حفلة. فتدعو رياضيين ومؤرخين وعلماء اجتماع إلى حفلات مسائية، ولكنها تتردد في دعوة فيزيائيين، خشية أن تنشق الحفلة إلى نصفين: فتغدو السيدات في الطرف الواحد من الغرفة بينما تكتل الفيزيائيون في الطرف الآخر مستغرقين في الحديث عن أعمالهم. 
فلو أن حفلة ما قد جمعت بين لي ويانغ في ربيع 1956، فأغلب الظن أنهما سيلتحيان زاوية من زوايا الغرفة، ويشرعان في مناقشة الدلائل لحفظ التناظر في التفاعلات الضعيفة. وكان الفيزيائيان قد شرعا في دراسة هذه المسألة فقط سعياً لإيجاد جواب لسؤال، جواب قد يحل أحجية التاو – ثيتا. ولكن حيث طفقا يمعنان النظر في الأبحاث التي جرت، الواحد تلو الآخر، أخذا يدركان مدى ما ينطوي عليه سؤالهم من عواقب. وقبل نهاية شهر أيار/ مايو، كانا قد انتهيا إلى رأي، أقل ما يقال فيه، أنه مجفل: لم تكن ثمة دلائل إطلاقاً تشير إلى حفظ التناظر في التفاعلات الضعيفة. 
وكان أمراً مذهلاً حقاً أن يعترض العلماء انطباق قانون حيث لا توجد أدلة تجريبية تؤيد ذلك الافتراض. وما يدعو إلى الذهول أكثر فأكثر إمكان وجود حقل لا يسير وفقاً للتماثل اليميني – اليساري، وهو المبدأ المرتكز عليه قانون حفظ التناظر. 
ولنفرض أن لافتة كتبت عليها كلمة ما – كلمة دار مثلاً – ترفع أمام مرآة، فإن هذه الكلمة تبدو معكوسة. وقد جرى انعكاس اليمين واليسار، ويبدو الحرف «ا» كما هو، لتماثل أجزائه.
ولم يساور الفيزيائيين أدنى شك في أن جميع الأشكال الطبيعية في أساسها تشبه الحرف «ا»، أي أنها متماثلة، وهذا هو السبب الذي حملهما على الاعتقاد بأنه من المحال التمييز بين صورة الأشياء الحقيقية التي كانوا يدرسونها وبين الصورة المعكوسة من المرآة. 
وأما الآن فقد تكشف أمام لي ويانغ إمكان وجود دنيا تفاعلات نووية أشبه في سلوكها بالحرف «د» إذ مهما حولنا الحرف «د» وأدرناه أمام المرآة، فبإمكاننا دوماً تبين أيهما الحرف الأصلي وأيهما الانعكاس. 
وعلى الرغم من الذهول الذي استولى على لي ويانغ حيال إمكان وجود عالم مجهول لا متماثل، أحجما عن الاعتقاد بأن مثل هذا الوضع قابل الاحتمال. وبعبارة أخرى، داخلهما الشك في أن قانون حفظ التناظر قد يخطئ إذا ما وضع موضع الاختبار، فقد ثبت صحة هذا القانون على نحو دائم، في حقل التفاعلات الضعيفة. وكان من المحتمل جداً أن يحفظ التناظر كذلك في حقل التفاعلات الضعيفة، ولكن كان ثمة طريق واحدة للتثبت من ذلك، وتلك طريقة الاختبار. 
ولهذا السبب اجتمع لي ويانغ ووضع خطة لعدد من التجارب المعقدة. ووضعت تلك التجارب بحيث تشكل كل منها اختباراً حاسماً لقانون التناظر. وأما المبدأ الأساسي المتبع في كل من هذه التجارب فقد كان مبدأ واحداً: تختار إحدى التفاعلات الضعيفة للاستقصاء والتمحيص أولا، ثم يدرس التفاعل الضعيف في اختبارين مرتبين بحيث يعكس كل منهما صورة مرآتية للآخر، ولكل تجربة متر أو عداد يسجل النتائج النهائية. فإن وجد اختلاف في التسجيلات الجهازية إذن لثبت أن التماثل اليميني – اليساري، وبالتالي قانون التناظر المشتق من هذه الفكرة ليس صحيحاً في هذه الحال. 
وسجل لي ويانغ اقتراحاتهما لبعض التجارب، ووزيع مقالهما على الفيزيائيين كما نشر في مجلة علمية. وبالتالي ركن الشابان إلى الانتظار حتى يقوم أحد الفيزيائيين التجريبيين بالرد على تحديهما بإجرائه إحدى التجارب فعلاً. 
وقد يتساءل بعضهم ما الذي حال ما دون قيام لي ويانغ بالتجارب بنفسيهما؟ والجواب على ذلك أنهما فيزيائيان نظريان لا يتلاءمان بالضرورة مع عمل المختبر، وهو فرع علمي مختلف كثير التعقيد، يتطلب نوعاً خاصاً من الكفايات والمزاج. وقد درس كلا الرجلين الفيزياء التجريبية، ولولا ذلك العلم لشل عملهما للغاية – كما أن يانغ قضى سنة ونصف السنة في مختبر في جامعة شيكاغو. ويقول فرانك يانغ البالغ الصراحة: «تعلمت هناك الكثير من الأمور المهمة، الجلد والتأني والكفاية. فقد يتعطل أحد أجزاء الجهاز عن العمل مثلاً، ما يوجب طرح التجربة بأكملها جانباً إلى أن يجري تصليح الجهاز. وأنا لدى حدوث شيء من هذا القبيل لا أتمالك نفسي من التميز غيظاً وحنقاً». 
غير أن ذلك لا يعني أن يانغ كان دوماً على منأى من المختبر. فهو يرى أنه يتوجب على العالم النظري مثله أن يكون على اتصال بالفئات التجريبية. وأن هذا الرأي هو الذي يحدوه إلى قضاء الصيف في مختبر بروكهافن القومي في دراسة الدقائق الغريبة التي ينتجها المسارع الضخم هنالك. 
حين أذاع لي ويانغ ما كان يخامرهما من شكوك حيال قانون التناظر، أتاحا للتجريبيين فرصة رائعة، ولكن الغريب المصادفة، لم يقدم العلماء على انتهاز تلك الفرصة لملء الثغرة المهمة في معلوماتهم، فقرأوا نشرة لي ويانغ وعلقوا قائلين: إن ذلك الأمر شيق، واستأنفوا أعمالهم التي كانوا دائبين في عمله. وحين كان لي ويانغ يفتحان أحد التجريبيين باقتراحهما، كان يغلب أن تكون الإجابة: «وهل تتوقع فعلاً نتيجة مذهلة مثيرة؟» فلا يجد لي أو يانغ بداً من الاعتراف بأنه لا يتوقع ذلك، فكان الفيزيائيان يؤمنان بضرورة إجراء إحدى تجاربهما. ولكنهما، لو طلب إليهما المراهنة في ذلك الحين، لما راهنا بثقة إطلاقاً على إحباط قانون التناظر. 
وأخيراً، شرعت عالمة تدعى تشين شيونغ وو بوضع اقتراح لي ويانغ موضع التنفيذ. وعلى الرغم من ضعف الأمل في التوصل إلى نتيجة رائعة مثيرة، فإن الآنسة كانت على استعداد لترك عملها وتكريس ستة أشهر للقيام بتهيئة تجربة عويصة تتطلب كثيراً من العناء والإرهاق. وقد قال الدكتور يانغ أنها بعملها هذا «دلت على الروح العلمية الحقة، التي تسأل: هل تشكل التجربة استقصاء لسؤال جوهري حقاً؟، ولا نسأل أبداً: ما فائدة التجربة العملية»؟

وشرعت الآنسة “وو”، التي كانت عضوة في هيئة جامعة كولومبيا الدراسية، بالتنقل أسبوعياً بين مدينة نيويورك وواشنطن العاصمة، حيث كانت تجري التجربة في مكتب القياسات القومي. وبالاشتراك مع فريق من البحاثة تحت إشراف أرنست أمبلر، شرعت تعد الاختبار الحاسم للتناظر. وكان يتوجب أولاً حل بعض المسائل العويصة إذ لم تكن قد أجريت من قبل تجربة من هذا النوع. ومثالا على ذلك، كان ينبغي حفظ الجهاز الاختباري تحت درجة حرارة تقارب الصفر المطلق للتخلص من كل المؤثرات الخارجية. (ملحوظة: ثمة تفصيلات أخرى عن التجربة في عدد الساينتفيك أميركان الصادر في شهر نيسان/ أبريل 1957). 
وفي الأشهر التي كان فيها السيد امبلر والآنسة وو يعدان العدة لاختبار التناظر، راح لي ويانغ يترددان على جهاز الهاتف أكثر من أي وقت مضى. فكانت الآنسة وو تخابرهما كي تسرد عليهما مدى ما بلغ عملهما من نجاح أو فشل، كما كانت ترد الرجلين مخابرات من فيزيائيين دفعهم حب استطلاعهم إلى التدقيق فيما كانوا يسمعون من شائعات حول التجربة.
وفي أحد الأيام طلبت الآنسة وو من واشنطون الدكتور لي والدكتور يانغ هاتفياً، فقد كان لديها أخبار سارة. وقالت إن بعض النتائج التجريبية التمهيدية تبشر بالخير، على الرغم من أنه لم يكن ثمة شيء محدد بعد. وطلب إلى لي ويانغ ألا يبوحا بهذه النتائج المباشرة لأحد ما، إذ لا بد من انتشار الخبر انتشاراً سريعاً وشاملاً في العالم الفيزيائي، وعندها لن يتردد العلماء في مخابرة مكتب القياسات القومي للاطلاع على ما كان يجري هنالك. وقالت الآنسة “وو”: “لا يسعنا ترك جميع أعمالنا هنا للرد على المخابرات الهاتفية الواردة من الفيزيائيين ولتزويدهم بالنشرات الإخبارية”. 

واتفق الدكتور لي والدكتور يانغ على عدم نشر الخبر، ولم ينشراه. غير أن فرانك يانغ دهش لدى استلامها، في اليوم التالي، مخابرة هاتفية من الطرف الآخر من القارة الأمريكية الشمالية. إذ كان على الطرف الآخر من الخط فيزيائي من كاليفورنيا يرغب في أن يعرف المزيد عن نتائج الآنسة “وو” التمهيدية تلك. وقبل أن يستفيق من دهشته كي يتمكن من الإجابة، شرع الرجل الكاليفورني يروي له خبر النتائج بإسهاب. وراح يانغ يتسمع باهتمام بالغ. فلقد كانت معلومات الفيزيائي في كاليفورنيا حول التجربة تفوق معلومات يانغ نفسه.
وفي كانون الأول/ ديسمبر من عام 1956، راحت إيصالات دفع الهاتف لعدد من الفيزيائيين المنتشرين في شتى أنحاء البلاد ترتفع وهم يتتبعون الشائعات التي أخذت تنتشر حول إحباط قانون التناظر. وحين أعلنت أخيراً نتائج تجارب الآنسة وو في كانون الثاني/ يناير سنة 1957 أصاب الفيزيائيين المتشوقين ما أسماه أحد المعلقين الصدمة وإن كانت عنيفة إلا أنها كانت باعثة على النشوة والابتهاج»، إذ كشفت السجلات الجهازية المختلفة جد الاختلاف ما كان لي ويانغ يشكان في احتماله: إن التفاعلات الضعيفة وصورتها المرآتية لا تكون دوماً متماثلة، فبالإمكان تمييز الجهة اليسرى عن اليمنى. فقد انهار مبدأ التماثل اليميني – اليساري، وبالتالي انهار كذلك قانون حفظ التناظر. وما أن أعلنت نتائج الآنسة وو والسيد امبلر، حتى كانت أربع فئات أخرى، في نيويورك، وشيكاغو، وموسكو، وليدن في هولندا، قد شرعت تقيم تجارب مماثلة ترتكز على اقتراحات لي ويانغ، وقد أيدت جميع نتائج هذه التجارب النتيجة الأولى. 

وحين يسأل فرانك يانغ إن كان هو و “ت. د. لي” قد احتفلا أثر سماعهما الأخبار السارة، يبتسم ويقول: «كلا إذ لم يكن الفرح همنا الأول. إن ما شعرنا به في ذلك الحين كان حماسة عارمة، إذ غدا في الإمكان الآن طرح عدد بالغ من الأسئلة، وطرق أبواب توشك على الانفراج». 

وفي عام 1957 دأب الفيزيائيون، بما فيهم لي ويانغ، على معالجة تلك الأسئلة والأجوبة، وجمعوا كمية كبيرة من المعلومات. وإذ أصبحوا الآن غير مضطرين إلى الامتثال لقوانين التناظر، فقد غدا في مقدورهم إجالة التفكير ووضع النظريات. وراحوا يرتابون في أمر سائر قوانين الحفظ الكبرى ويتساءلون، في ما إذا كانت ستنهار هي أيضاً في حقل التفاعلات الدقيقة.
وكتب فيزيائي يدعى فيليب موريسون في مجلة الساينتفك أميركان متسائلاً ما إذا كان قانون حفظ الطاقة لا يزال يصح في أضعف التفاعلات جميعاً، تلك المتعلقة بطاقة الجاذبية الضعيفة). واستمر يقول: (هنا، قد يتبادر إلى الذهن الفرض القائل بأن المادة قد تنشأ تلقائياً من فضاء خال من الطاقة، وأن تلك الاحتمالات جل مثيرة). 

ويجيل الفيزيائيون التفكير أيضاً في العلاقة بين انعدام التماثل في التفاعلات الضعيفة وبين الانعدام التقريبي للمادة المضادة (وهي دقائق تكون، في خلال شحنتها العكسية، صورة طبق الأصل لدقائق أخرى) في عالمنا. وقد يشير هذان المظهران لعدم التماثل إلى تماثل أوسع مدى، يشمل كوناً مؤلفاً من مادة مضادة منعدمة التماثل لحفظ توازن عدم التماثل في عالمنا الخاص. ويظن بعض الفيزيائيين أنه ربما كانت هذه هي الحلقة بين فيزياء الفضاء الخارجي وفيزياء الدقائق الأولية. 
ومنذ أن أحرز لي ويانغ جائزة نوبل، واصلاً نشاطهما المنتج في عِلم الدقائق الأولية، الذي غدا يُعرف باسم «فيزياء الدقائق». وقد يجعل هذا العلم الجديد في حيز الإمكان الإجابة على أسئلة كهذه: ما الغاية من الدقائق الغريبة، وما السبب في تعددها البالغ؟ ما معنى عدم تماثل التفاعلات الضعيفة؟ هل تنطبق المفاهيم المألوفة عن الزمن والفضاء في حقل التفاعلات الضعيفة الزائغة؟ وقد يعثر لي ويانغ على أجوبة لبعض تلك الأسئلة.

بيد أن عمل العالمين الشابين النظريين لا ينحصر دوماً في حقل فيزياء الدقائق. فحين يسمعان بمسألة جديدة تبدو مشوقة، ينصرفان إلى معالجتها، وليس ثمة رجال آخرون كثيرون يستطيعون الإحاطة بجميع مادة الفيزياء الموضوعية على هذا النحو، إذ يتطلب ذلك مستوى عالياً من الذكاء والنشاط. 

إضافة إلى مقدرتهما الفكرية ونشاطهما، فإن ليانغ ولي ميزة أخرى يتميزان بها. فاجتماع ذهنين أفضل من ذهن واحد، وأما ما هو أفضل من ذلك فذهنان متفاهمان يعملان على مستوى عال واحد. وحين يعالج لي ويانغ المشاكل العملية ويشتد النقاش بينهما، تروح الشرارات تتطاير، ولكنها شرارات تنبثق عنها آفاق جديدة للمعرفة.

المراجع

Loading

اترك تعليقاً