تأسيس الإدارة العثمانية في جزيرة كريت: الحياة اليومية، العلاقات الاجتماعية وتكوين الهوية

تاريخ لا توجد تعليقات

بقلم: د. نوري أدي ياكا، بتصرُّف من فريق التحرير

توطئة

تقع جزيرة كريت في منطقة وسط بين شبه الجزيرة اليونانية والأناضول في مكان جغرافي مهم جداً على طريق العبور من البحر الأبيض المتوسط إلى بحر إيجة. يبلغ طول الجزيرة من الشرق إلى الغرب مسافة ‎260‏ كلم، بينما يبلغ عرضها من الشمال إلى الجنوب 12-60 كلم بشكل مستطيل نسبياً. مساحتها 8336 كلم مربع، لذلك هي الجزيرة الأكبر في شرق البحر الأبيض المتوسط بعد جزيرة قبرص، والجزيرة الخامسة مساحة ‏في كل البحر الأبيض المتوسط. كان عدد سكانها عام ‎2020 حوالي 636,504نسمة.

مناخ هذه الجزيرة هو نفس المناخ التقليدي المعروف للبلاد المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وتحتوي على مساحات شاسعة من الأراضي الجبلية، إذ ترتفع جبال “ليفكا أوري” أو الجبل الأبيض ما علوه 2452م، وكذلك جبال “إيدا” بارتفاع يصل إلى 2456م‏ بحيث تقسم الجزيرة تقريباً إلى شرق وغرب. مدن الجزيرة الكبرى تمتد من الشرق نحو الغرب على الشكل التالي: قنديه (أو كما تسمى اليوم إيراكليون أو هيراكليون)، عدد سكانها الحالي هو بحدود 144,422 نسمة في إحصاء عام 2011، ريسمو (ريثيمنو) (34,300 نسمة)، خانيا (53,910 نسمة)

وهي المدن التي تمتد على الساحل الشمالي للجزيرة. أما في السواحل الجنوبية للجزيرة ومرتفعاتها الداخلية فلا يوجد إلا بعض البلدات الصغيرة والقرى.

كانت جزيرة كريت منذ العصور الأولى مركزاً سكنياً مهماً. فبعد حكم روما وروما الشرقية دخلت جزيرة كريت تحت الحكم العربي، وحكمت ما بين 828-961م من قبل الحفصيين. وفي العام 961 عادت جزيرة كريت مرة أخرى لحكم روما الشرقية وبقيت كذلك إلى حين انتقالها إلى حكم البنادقة. في الفترة الموازية لزوال الإمبراطورية الرومانية منذ العام 1204م.‏ وبدءاً من القرن الخامس عشر، أصبحت جزيرة كريت مكاناً لا ينقطع عنه البحارة الأتراك أبداً.

تعتبر جزيرة كريت آخر الأراضي التي تم إلحاقها بالإمبراطورية العثمانية، ذلك لأنها بقيت خارج قبضة العثمانيين بالرغم، من سيطرتهم على كل جزر بحر إيجة إضافة إلى جزيرتي روذوس وقبرص. ويعود السبب ذلك أن كريت كانت مفتاح التجارة إلى

شرق البحر الأبيض المتوسط. وبالإضافة لكونها مركزاً للتجارة القانونية، فقد كانت الجزيرة في نفس الوقت مركزاً مهماً لأنشطة القراصنة، وبالتالي فقد كانت مكاناً مهماً جداً من الناحية الإستراتيجية بالنسبة للدولة العثمانية. لم تكن جزيرة كريت مهمة فقط للسيطرة على شرق البحر المتوسط فحسب، بل كانت أيضاً مهمة جداً لأمن بحر إيجة ومضيق تشاناك كالي (الدردنيل) وبالتالي كانت السيطرة على كريت تعني تعزيز أمن إسطنبول. وعندما أصبحت جزيرة كريت. في القرن السابع عشر نقطة أساسية في طرق الحج والتجارة المتصلة ببحر إيجة، أصبحت حصناً يجب إلحاقه بشكل مطلق إلى ملك الدولة العثمانية.

فتح جزيرة كريت

بدأت الحملة العثمانية على كريت. في ربيع العام 1645م ولكنها طالت بشكل غير متوقع أبداً، إذ استمرت الأعمال الحربية حتى خريف العام 1669م. لهذا السبب أخذت معركة جزيرة كريت طابعاً معنوياً مختلفاً بالنسبة لأصحابها البنادقة المدافعين وكذلك بالنسبة للعثمانيين على حد سواء في حرب استمرت لربع قرن من الزمن. لقد فتحت مدينة خانيا عام 1645م ثم فتحت مدينة ريسمو في العام الذي تلاه. وفي العام التالي فتحت إيرابيترا وميرابيلى. وهكذا استولى العثمانيون باتباع وسيلة القضم رويداً رويداً على معظم أرجاء الجزيرة وصولاً إلى الخطوط الأمامية لمدينة قنديه. لقد شهد العام 1648م المرحلة الأخيرة لفتح جزيرة كريت ولكنها استمرت ‎20‏ سنة كاملة على شكل حصار كامل لمدينة قنديه. لم يتحقق فتح قلعة المدينة إلا شهر أيلول من العام 1669م وعلى الرغم من اختلاف الأرقام المدرجة خلال فتح جزيرة كريت، إلا أن أعداد المسلمين الذين استشهدوا في هذه الحملة قدر بحوالي 110,000 إلى 140,000‏ شهيداً. لذلك فقد كلف فتح جزيرة كريت الدولة العثمانية عبئاً مادياً ومعنوياً كبيراً جداً.

كان منتصف القرن السابع عشر بداية تأسيس الإدارة العثمانية في الجزيرة. فعندما كانت الملاحم تسطر على تخوم مدينة قنديه، كانت كل بقية مناطق الجزيرة قد دخلت فعلياً تحت حكم الإدارة العثمانية. إننا نمتلك اليوم أرشيفاً ضخماً جداً يصف كل مراحل الإدارة العثمانية لجزيرة كريت بالتفصيل. فبالإضافة إلى الآلاف من الوثائق الموجودة في الأرشيف العثماني التابع للجمهورية التركية، فإن لدينا أيضاً الكثير من السجلات المحلية المتعلقة بجزيرة كريت، من سجلات المحاكم، وسجلات النفوس، وسجلات المجتمع الإسلامي من سجلات الهداية والردة وغيرها، إضافة إلى سجلات الأوقاف وأمثالها، في مجموعة تتألف من آلاف المجلدات الموجودة في مديريات الأرشيف المختلفة ‏ في تركيا وكريت، كلها مفتوحة أمام الباحثين تنتظر همتهم لاستخراج ما فيها من كنوز المعلومات والتفاصيل.

بعد أن فُتحت مدينة خانيا، تم تطبيق إدارة الفتوحات التقليدي في جزيرة كريت كما جرت عليه العادة في أراضي الدولة العثمانية، فحُوِّلت كنيسة سانتا نيكولاس أكبر كنائس المدينة إلى مسجد أطلق عليه اسم مسجد “الهنكار” أي السلطان. كما حولت كنيستان كبيرتان في المدينة إلى مسجد يوسف باشا ومسجد موسى باشا، وأُسست الأوقاف المناسبة لتأمين الدخل الضروري لهذين المسجدين. ثم أعيد ترميم أسوار المدينة وأبنيتها التي تضررت خلال فترة الحرب، وقام العثمانيون بترميم شبكات المياه والخزانات لحل مشكلة المياه التي كانت تعاني منها المدينة. كما تم إنشاء أبنية جديدة لإعمار المدينة. ثم كانت إصلاحات كل الطرق المتصلة بالمدينة مع الجسور والعبارات. كذلك كان الأمر نفسه عندما فتحت مدينة ريسمو في العام التالي، إذ تم ترميم قلعتها وأبنيتها التي تعرضت للضرر خلال فترة الحرب بشكل كامل، وحولت أكبر كنائسها إلى مسجد فُتح فوراً للعبادة. كما تم وقف بعض القرى لمصلحة هذا المسجد. ثم بدأت أعمال بناء مسجد وحمام داخل القلعة الكبيرة “فورتيتزا”، وقام حسين باشا بإنشاء مسجد وزاوية صوفية خارج المدينة.

وأخيراً، وعندما فتحت مدينة قنديه، تم تحويل كنيسة سان فرانسيسكو أكبر كنائس المدينة إلى مسجد أيضاً سمي باسم السلطان وأقيمت فيه أول صلاة جمعة بعد الفتح. كان احتفال العثمانيين بإنجاز أي فتح لا يتم إلا بإقام الصلاة في مسجد المدينة، وكان ذلك رمز الفتوحات التقليدي في الإمبراطورية العثمانية على مر الزمان، بحيث لا تكتمل صورة إعلان النصر إلا من خلال صلاة الجمعة الأولى هذه. بعد ذلك تم تحويل بعض الكنائس إلى مساجد سميت بأسماء موظفي الدولة وتم إنشاء الأوقاف المرتبطة بها.

الحرية الدينية وإعادة القوة الكنسية للأرثوذكس

الملفت في الأمر أن كامل كنائس وأديرة المدينة لم تحول إلى مساجد، بل أبقي على الكثير منها مفتوحة للعبادة بنفس الشكل السابق لكي يتسنى لأهالي البلد من الأرثوذوكس أن يمارسوا شعائرهم الدينية ويقوموا بعباداتهم كما يريدون بحرية كاملة، بل كانت دور العبادة هذه تخضع لتدابير تؤمن حمايتها بشكل خاص. وكما حصل في سائر المدن الأخرى، فقد بدأت عملية إعمار سريعة في مدينة قنديه، فتم إصلاح الأبنية المدمرة، وأعيدت الحياة إلى المدينة التي تعرضت للضرر خلال هذه الحرب في وقتٍ قصير.

خلال حملة العثمانيين على جزيرة كريت، انضم كثير من الروم من أبناء الجزيرة وخاصة سكان القرى والأرياف إلى العثمانيين وساندوهم في حربهم ضد البنادقة. ولهذا، ومنذ أن فتح العثمانيون مدينتي خانيا وريسمو، أعلنت السلطات العثمانية عن تأمين حياتهم وبقاء من يشاء منهم في داره وقريته، وأقرت ملكيتهم على جميع ما كانوا يملكونه قبل الفتح، وأن بإمكانهم الاستمرار في إنتاجهم كما يشاؤون. أما عندما دخل العثمانيون مدينة قندية فلم يجدوا من سكانها إلا القليل، لقد غادر معظم الأهالي هرباً من العثمانيين بعد حصار دام عشرين سنة.

كان من أحد أبرز مهام الإدارة العثمانية في الجزيرة هو تنظيم الشؤون الدينية للسكان المحليين من الأرثوذوكس. فخلال حملتهم على كريت، وعد العثمانيون أبناء الجزيرة من الأرثوذوكس بأنهم سيطردون رجال الدين اللاتين البنادقة ويعيدوا تأسيس الهرمية الأرثوذوكسية الأصلية من جديد. وفعلاً قامت الإدارة العثمانية عام 1646م بتعيين رجل الدين الكريتي “نيوفيتوس باتيللاروس” في منصب أسقف المطرانية مما أضفى ومن دون أدنى شك جواً إيجابياً بين الأهالي الروم في كريت. لاحقاً، أصبح مطران (رئيس الأساقفة) كريت يُعيَّن من قبل بطريركية إسطنبول مباشرة، وكان مركز المطرانية الأساسي آنذاك هو في مدينة قنديه. وبعد انتقال مركز الحكومة إلى خانيا عام 1850م، بقي مركز المطرانية الأساسي في قنديه. قسمت جزيرة كريت إلى 9 مراكز أسقفيات، وتم تعيين أساقفة لكل هذه المراكز. أما آلية التعيينات فكانت تتم على الشكل التالي: بعد أن يتم تعيين مطران كريت من قبل بطريركية إسطنبول، كان يعرض على الإدارة العثمانية لنيل الموافقة، ثم كان يعتبر ساري المفعول بعد ذلك. أما الأساقفة فكانوا يعينون بالشكل التقليدي، حيث تحدد أسماؤهم من قبل الهيئة الروحية المجتمعة برئاسة مطرانية كريت، ثم كانت ترسل الأسماء إلى بطريركية إسطنبول للعرض والموافقة. وبعد موافقة البطريركية على الأسماء المقترحة، كان يطلب من الإدارة المركزية العثمانية إصدار مرسوم التعيينات الذي ترسل إلى المرجعيات المختصة لتتم التعيينات كلها بالشكل الرسمي والقانوني.

النظام الإداري والضريبي

وبعد أن ألحقت جزيرة كريت بالأراضي العثمانية، كان تحرير الأراضي وتدوين الملكيات من أول الأعمال التي نفذتها الإدارة المحلية، فتم ذلك في مدينتي خانيا وريسمو عام 1650م‏ واستكملت اعمال التحرير هذه بعد أن استكمل فتح جزيرة كريت كلها، فبدأت عملية تسجيل واسعة وكبيرة وتم تدوين كافة الأملاك والممتلكات الموجودة في الجزيرة في سجلات خاصة. هكذا تشكلت فروع النظام العثماني بتشكيل قواعد النظام الضريبي في جزيرة كريت، وتم تطبيق نظام الاستِمالة للأراضي والأملاك وهوما عرف بنظام “تيمار”. ولكن، في واقع الأمر، كان النظام الضريبي العثماني في جزيرة كريت يختلف عن النظام الضريبي العام المعمول به في بقية الممالك العثمانية. لقد أعفي سكان كريت المحليين من بعض الضرائب، واحتوت التطبيقات المالية على بعض الفروقات المختلفة لمصلحتهم.

كانت جزيرة كريت في عهد البنادقة مركزاً مهماً جداً بالنسبة لأوروبا لصناعة المشروبات الروحية. وقد تغير ذلك في عهد العثمانيين لمصلحة زراعة الزيتون وصناعاته. ومع تطور تلك الصناعات في القرن السابع عشر، أصبح حجم الطلب كبيراً جداً لتلك المنتوجات في الأسواق العثمانية والأوروبية في القرن الثامن عشر. وقد بدأت صناعة الصابون الحقيقية في الربع الأول من القرن الثامن عشر لتتطور بعد ذلك بسرعة شديدة. كانت مصانع الصابون تدار من قبل المسلمين والروم واليهود، وكان للزيتون وزيت الزيتون والصابون أهمية كبيرة في الاقتصاد المحلي الكريتي.

أما من الناحية الإدارية، فقد كانت ولاية كريت تتمتع بحكم شبه ذاتي، وكان لها أربع سناجق هي: قنديه، خانيا، ريسمو وإيستيا. وكان في هذه السناجق ما مجموعه عشرون بلدة تابعة لها. كان هذا التقسيم هو نفسه خلال حكم البنادقة، واستمر كذلك في عهد العثمانيين مدة من الزمن. ومع نهايات القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، تم إلغاء سنجق إيستيا وأُلحق بسنجق قنديه وأصبحت ولاية كريت مقسمة إلى ثلاث سناجق، وكان سنجق قنديه هو مركز هذه الولاية. وفي العام 1860 و1868 حصلت تغييرات إدارية كبيرة في الجزيرة، فقسمت ولاية كريت إلى خمس سناجق بعد أن أضيف سنجقا لاشيد وإسفاكية إلى المحافظات السابقة ليتم نقل مركز الولاية بعد ذلك من قنديه إلى خانيا.

الديانات في الجزيرة

خلال الحكم العثماني لجزيرة كريت كان الروم الأرثوذوكس هم الطائفة الأكبر عدداً فيها، وكان المسلمون هم الطائفة الثانية. إضافة إلى ذلك كانت هناك جماعة يهودية صغيرة في كلٍّ من مدينتي قنديه وخانيا. استطاعت هذه الجماعة أن تحافظ على وجودها في كريت رغم كل التغيرات والتبدلات التي حصلت فيها، ولا تزال كذلك حتى اليوم. كما كان يوجد في كريت عدد قليل من الكاثوليك ممن بقي من زمن البنادقة. الجدير بالذكر أن هذه الطائفة لم تكتب لها الديمومة في كريت، وعلى الرغم من بقاء الكنائس الكاثوليكية تحت حماية الإدارة العثمانية، إلا أنه لم يبق فيها أي جماعة مع مرور الزمن فأغلقت الواحدة تلو الأخرى. كما يوجد في مدينة قنديه عدد قليل من الأرمن.

أما المجتمع الإسلامي في كريت فقد تكون على الشكل التالي:

 لقد جاء إلى كريت كل من الإداريين والعساكر العثمانية وموظفي الدولة من رجال دين وغيرهم خلال فترة الحرب من مناطق مختلفة من أراضي الدولة العثمانية وسكنوا في الجزيرة. أما المجموعة الأخرى من المسلمين فكانت من اتباع الطريقة البكتاشية الذين رافقوا الحملة العثمانية على كريت واستوطنوا فيها بعد استكمال الفتح. لقد كانت أعداد هاتين المجموعتين لا يتخطى بضعة آلاف فقط.

كانت الطريقة البكتاشية من أكثر الطرق الصوفية انتشاراً بين مسلمي الجزيرة. وكان في كل من مدينتي ريسمو وقنديه تكية مهمة لهذه الطريقة. كان مولانا الدرويش “علي بابا الخرساني زاده” هو شيخ الطريقة البكتاشية الذي أدخل هذه الطريقة إلى جزيرة كريت. وكان هذا الشيخ من الذين شاركوا فعلياً في الحملة العثمانية لفتح جزيرة كريت كمتطوع مع عدد من اتباعه ومريديه، ثم أسس بمساعدة الغازي حسين باشا تكيته الخراسانية على مسافة ‎3.5 كيلومتر جنوبي مدينة قنديه. وبعد وفاة الخراساني زاده خلفه السيد “محمد أمين بابا” في رئاسة الطريقة البكتاشية في كريت وكان من الرواد الكبار الذين نجحوا في‏ نشر البكتاشية فيها. هكذا تمكنت هذه الطريقة من الانتشار خلال فترة وجيزة في مختلف أرجاء الجزيرة. وعندما قامت الإدارة العثمانية بإلغاء الإنكشارية في العام 1826م استكملت إرادتها بحظر الطريقة البكتاشية في الوقت عينه، وقامت بإرسال الفرمانات إلى مختلف الأرجاء التي تأمر بهدم تكيات ودور هذه الطريقة. ولكن أحداً لم يلمس تكيات هذه الطريقة سواءً في جزيرة كريت أو بدول البلقان، فاستمرت البكتاشية في كريت إلى حين مجيء اليوم الذي خرج فيه الأتراك من هذه الجزيرة.

وخلال حملة المُبادلة (تبادل الأراضي والسكان بين اليونان وتركيا)، هاجر آخر مشايخ الطريقة البكتاشية في كريت صادق بابا

من مدينة قنديه وسكن مع العديد من أبناء الجزيرة المبادلين في مدينة طرسوس التابعة لمدينة مرسين. وخلال هجرتهم، قام هذا الشيخ بالتعاون مع بعض المبادلين الآخرين بنقل قبر مؤسس الطريقة البكتاشية في جزيرة كريت علي بابا الخرساني وحملوه معهم إلى مدينة طرسوس.

لقد شهدت جزيرة كريت بناء العديد من التكيات التابعة للطرق الصوفية الأخرى في أوقات مختلفة. فكان من آخرها التكية المولوية في مدينة خانيا التي أسست من قبل الشيخ سليمان شمسي ديده في القرن التاسع عشر وهو أمر أدى إلى انتشار واسع للطريقة المولوية في جزيرة كريت بدءاً من العام 1880.

كان لهذه الزوايا والتكيات دور كبير انتشار الإسلام في جزيرة كريت في المراحل الأولى للفتح، وكان لها دور كبير أيضاً في مرحلة الحكم العثماني الأخير للجزيرة لما آلت إليه هذه الأماكن من ملاذ آمن ومهم للمسلمين الهاربين خلال الصراع الإسلامي – الرومي في أواخر القرن التاسع عشر.

أما الفئة الثانية من ابناء الجالية المسلمة في كريت والتي كان لها دور كبير في تكوين المجتمع الإسلامي عموماً في الجزيرة فكانت من أبناء الجزيرة المحليين. لقد تبين من خلال دراسات وأبحاث كثيرة أن أعداداً كبيرة من أبناء الروم الأرثوذوكس قد اختاروا التحول إلى الدين الإسلامي من دون إكراه عثماني. وعلى الرغم من أن أعداد هؤلاء المهتدين ليست معروفة تماماً، إلا أن موجات الهداية قد استمرت لغاية عشرينيات القرن السابع عشر بشكل جماعي، ومن ثم تحولت إلى شكل فردي بعد ذلك. وكما يمكننا أن نرى ‏ سجلات القضاء المحلية في كريت عمليات تحول فردية من المسيحية إلى الإسلام، فإننا نرى في الوقت نفسه عمليات هداية جماعية لقرى بالكامل أيضاً.

أما عن الأسباب الأخرى التي كان لها دور مهم تكوين المجتمع الإسلامي في كريت فهي بلا شك عمليات الزواج المختلط التي كانت حصلت كثيراً بين المسلمين والمسيحيين. إن زواج الرجل المسلم من المرأة المسيحية هو أمر موجود ومقبول في الشريعة الإسلامية، وكان ذلك يجري بكثرة في جزيرة كريت. وكان الأولاد الذين ينتجون من هذه الزيجات المختلطة هم مسلمون بطبيعة الحال. إن سجلات القضاء تحتوي على أعداد كبيرة من حالات الزواج هذه. ومما ساهم أيضاً في ازدياد موجات الهداية في كريت هو انخراط أعداد لا بأس بها من ابناء كريت المحليين في فرق الجيش الإنكشاري. كانت هذه المؤسسة العسكرية سبباً حث أبناء الشعب المحلي على اعتناق الإسلام. فكان الشباب اليافعون من أبناء كريت من الروم الأرثوذوكس يجمعون من القرى المختلفة ويدعون إلى الإسلام ويسجلون في عداد أفراد الفرق الإنكشارية. بمثل هذا الأسلوب عملت الإدارة العثمانية على جذب الأهالي من الروم إلى اعتناق الإسلام.

لم تكن حركة الهداية الكثيفة التي حصلت في‏ جزيرة كريت في القرنين السابع والثامن عشر حالة عادية حصلت في أراض عثمانية أخرة. لذلك فإن سياسة “التطعيم السكاني” التي كان يتبعها العثمانيون دول كثيرة كالبلقان وغيرها، والتي كانت تقضي بنقل وإسكان المسلمين من الأناضول إلى البلاد الجديدة التي تم فتحها، لم يتم اعتمادها في جزيرة كريت. والسبب في ذلك يعود إلى التغير الديموغرافي الكبير (التعداد السكاني) في الممالك العثمانية الذي شهد انخفاضاً كبيراً في تلك الفترة. لهذا السبب، لا يمكن أن يفسر التحول الديموغرافي والديني الكبير بين سكان الجزيرة لصالح المسلمين خلال مئة عام من الزمن إلا من خلال عملية اعتناق جماعي للدين الإسلامي الذي شهدته تلك المرحلة. وقد كان حتماً للطريقة البكتاشية دور مهم في حالة التحول الديني المذكور.

وخلال إدارة العثمانيين في مراحلها الأولى، كانت التكايا الصوفية في‏ الأرياف تقوم بمهمة إيواء المسافرين أيضاً. فكانت تطعمهم وتؤمن لهم المبيت ليلا وتقدم لهم سائر الخدمات الأخرى. لم تكن هذه المعاملة تقتصر على المسافرين المسلمين، بل كانت تقدم بنفس الشكل لغيرهم من المسيحيين أيضاً. على الجانب الآخر، فقد كان المسافرون المسلمون يلجؤون إلى الكنائس الأرثوذوكسية للغرض عينه، وكانوا يلاقون منهم نفس المعاملة الحميدة وحسن الضيافة.

أخيراً يجدر بنا الذكر أن نقول إن المسلمين الأفارقة ساهموا في تشكيل المجتمع الإسلامي جزيرة كريت. لقد كانت كريت منذ قديم الزمن محطة مهمة على طريق تجارة الرقيق، وكانت بالتالي تأوي العديد من العبيد الأفارقة. كما أن انتقال الحكم في الجزيرة في عشرينيات القرن الثامن عشر إلى سلطة محمد علي باشا والي مصر كان سبباً مهماً في قدوم أعداد كبيرة من الزنوج إليها من القارة الأفريقية.

التعدد الثقافي

لقد كانت الحياة العرقية في جزيرة كريت حتى أوائل القرن التاسع عشر تشكل نموذجاً فريداً غير موجود في سائر الجغرافيا العثمانية لما كان يعيشه أهلها من تداخل وترابط ملفتين للنظر. فلقد كان من العادي جداً أن تجد بين أبناء العائلة الواحدة بعض الأفراد المسلمين والبعض الآخر من المسيحيين. وقد شاهدنا في سجلات محكمة القضاء قيوداً كثيرة لأشخاص بعض أعمامهم أو أخوالهم من المسلمين والآخرون من المسيحيين، أو أن إحدى الجدات من المسلمين والأخرى من المسيحيين. ونتيجة لهذا الشكل من الحياة العرقية والدينية المتشابكة إضافة إلى حالات الهداية والتزاوج المختلط، فقد كان من الطبيعي جداً أن تكون اللغة المحكية في الجزيرة هي اليونانية، فسواء أكان المرء مسلماً تركياً أو أرثوذكسيا رومياً فإن لغته كانت هي نفسها اليونانية، ولم يكن هناك ممن يتقن اللغة التركية سوى الإداريون وموظفوا الدولة.

كانت الألقاب التي ظهرت ‏ جزيرة كريت في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر، سواء أكانت تركية أو يونانية، تنتهي جميعها بإضافة – أكي – التي هي خاصية مشتركة لكل سكان الجزيرة. إن الألقاب مثل لولوذاكي، صوباشاكي أو بكراكي هي أمثلة لآلاف الكنيات الأخرى المشابهة. هذه الألقاب لم تكن ألقاباً شخصية بل هي كما هو الحال في يومنا هذا ألقاب/أسماء عائلات تتناقلها الأجيال جيلاً بعد جيل.

إن كل ما تم الحديث عنه سابقاً يدل كما ترون على أن الحياة الاجتماعية في جزيرة كريت كانت متداخلة بين المسلمين والمسيحيين حتى في مناطق السكن. وبعيداً عن محلة الأرمن ومحلة اليهود، فقد كان المسلمون والمسيحيون، الأتراك والروم يعيشون في نفس الحارات جيراناً مع بعضهم البعض. وكانت الحياة الاجتماعية بينهم تقوم على المحبة والمودة بكل ما في الكلمة من معنى.

الثورات ونهاية الحكم العثماني

ولكن، مع بداية ظهور الأحداث المبنية على خلافات قومية وفكرية في القرن التاسع عشر، دخلت الحياة الاجتماعية التي كانت تشكل نموذجاً متميزاً ضمن النظام التقليدي العثماني في الجزيرة حيزاً جديداً مضاداً لما كان عليه سابقاً. ذلك أن أعمال الشغب التي بدأت في العام 1821م‏ بهدف استقلال اليونان قد وجدت لنفسها في جزيرة كريت أرضية صالحة لها، فبدأت فيها ثورات وعمليات شغب وقلاقل ضد الإدارة العثمانية منذ ذلك التاريخ.

رسم توضيحي لشنق أول سبعة رجال أتراك مسلمين من جزيرة كريت على يد قوات بريطانية، حيث أدين الرجال المسلمين بقتل جنود ورعايا بريطانيين في 14 سبتمبر وقد تم شنقهم في 18 أكتوبر 1898 في أعمال شغب حدثت في قندية. (رسم توضيحي من الجرافيك ، 5 نوفمبر 1898.)

وعلى الرغم من أن أعمال الشغب التي بدأت من قبل الروم الأرثوذوكس في الجزيرة عام 1821م‏ قد تركت لوالي مصر وسلطانها محمد علي باشا، إلا أن هذا الباشا قد أعاد تسليم الجزيرة للإمبراطورية العثمانية بعد ذلك بفترة وجيزة. ولكن فكرة الالتحاق بدولة اليونان الحديثة المنشأً كانت قد بدأت في جزيرة كريت بين الروم. وفي هذا السياق، وفي العام 1844 والعام 1866 ومن ثم في العام 1897-1898 شهدت جزيرة كريت أعمال شغب كبيرة، وقام أبناء الشعب من الروم بمجازر بحق المسلمين خلال أعمال الشغب هذه. وقد تدخلت الدول العظمى ممثلةً ببريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا لحماية المسيحيين. وأمام فكرة القومية اليونانية هذه، ظهر عند مسلمي الجزيرة وللمرة الأولى شعور بضرورة إظهار هويتهم العثمانية. ولهذا السبب تم إنشاء المدارس الحديثة لتعليم اللغة التركية، والأهم من ذلك، فقد بدأت الكثير من الصحف المحلية تنشر أخبارها باللغة التركية. وقد استمرت جرائد مثل أوميت (الأمل)، وصدى كريت، والمدافعة بالعمل والصدور بشكل منتظم كل من خانيا وقنديه وريسمو. هكذا، وأمام بروز القومية اليونانية، فقد ظهرت أمامها حركات تدعو إلى تدعيم القومية العثمانية التركية في الجزيرة وتعمل للدفاع عنها.

خلال أعمال العنف التي حصلت في القرن التاسع عشر في كريت، قامت الدولة لعثمانية بالعديد من الإصلاحات الإدارية المختلفة لنيل ثقة الروم وإعطائهم مزيدا من الامتيازات. كانت أهم مراحل تلك الحقبة هو إعلان دستور ولاية كريت والقبول باتفاقية خاليبا. بموجب هذه الاتفاقية، بدأت جزيرة كريت تذكر في القيود البيروقراطية العثمانية تحت اسم “الولاية المتميزة”، الأمر الذي كان موجوداً أصلاً منذ الفتح العثماني ولكن بشكل غير رسمي. لقد كانت الجزيرة تتمتع بامتيازات خاصة وكثيرة، وقد تم ترسيخ ذلك خطياً من خلال هذه الاتفاقية القانونية الرسمية. في الحقيقة، لقد كانت اتفاقية خاليبا تحمل صبغة البروتوكول العالمي الذي أعطى الامتيازات الواسعة لإدارة الجزيرة المحلية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على حد سواء. لقد تم تدعيم الإدارة المحلية للجزيرة من خلال الاعتراف بالحريات الشخصية على أعلى المستويات، كما تم القبول باللغة اليونانية لغة رسمية في البلاد إلى جانب اللغة التركية، وكان ذلك يعتبر حالة خاصة فقط لنظام الحكم في جزيرة كريت. ولكن كل ذلك لم يجدي نفعاً فكانت المرحلة الأخيرة من التغيير الإداري في الجزيرة عام 1897 عبر إعلان الحكم الذاتي فيها. هكذا أصبحت جزيرة كريت تابعة للسلطنة العثمانية اسمياً على الورق، ولكن إدارتها تركت للأمير جورج ابن ملك اليونان بصفته المفوض السامي المنتدب باسم الدول الأوروبية الكبرى. وبعد حروب البلقان في العام 1913م‏ وإثر الهزائم التي منيت بها الدولة العثمانية، تم تنظيم استفتاء شعبي أصبحت بموجبه جزيرة كريت جزءاً من الدولة اليونانية.

المراجع

Loading

اترك تعليقاً