العثمانيون والصراع غَربِي المتوسط

تاريخ لا توجد تعليقات

شهد القرن السادس عشر الميلادي صراعاً مريراً غربي البحر الأبيض المتوسط بين الممالك الأوروبية المسيحية بعد طرد المسلمين من الأندلس وبين الولايات الإسلامية في شمال إفريقيا خاصةً دول المغرب العربي (حالياً). إلا أن صعود سطوة الدولة العثمانية غيّر جميع المعادلات.

بداية الصراع

ففي غربي البحر المتوسط واصل المسلمون جهادهم ضد الصليبيين الإسبان والبرتغال الذين أجبروهم على الرحيل من شبه الجزيرة الإيبيرية (الأندلس). فقد أسس المسلمون المنفيون من إسبانيا الموريسكيون مُدُناً على طول سواحل البحر الأبيض المتوسط شمالي إفريقيا وعقدوا العزم على الانتقام من مضطهديهم وذلك بالإغارة على سواحل إسبانيا والبرتغال المألوفة لديهم ومهاجمة السفن الصليبية، وبخاصة في مضيق جبل طارق وجزيرة مالطة (1). وفي غضون أعوام قليلة كانت أغلبية الموانئ الممتدة من تونس شرقاً إلى المغرب تضم أساطيل إسلامية أثارت الرعب في قلوب أوروبا.

ورداً على ذلك استولى الإسبان والبرتغاليون، على عدد من النقاط الحصينة على طول سواحل مراكش في المغرب والجزيرة في الجزائر وأرغموا الحفصيين الذين كانوا يحكمون الجزائر على التبعيةِ لهم والسماح لهم بإقامة قاعدة بحرية حصينة في جزيرة بينون القريبة من ميناء الجزائر. وأدى هذا إلى تحويل النشاط الجهادي الإسلامى من شرقي البحر المتوسط إلى غربيه مما مهد للفتح العثماني للمغرب العربي (2).

الأخوان برباروس

ومن أشهر رجال البحر المسلمين وأنجحهم الأخوان عروج وخير الدين برباروس وكانا مسيحيين ثم دخلا الإسلام، وعملا في الأسطول البحري لسلطان تونس محمد الحفصي. وكانا يعترضان السفن المسيحية التابعة لإسبانيا ومملكة البندقية، ويأخذان ما فيها، ويبيعان ركابها وملاحيها رقيقاً. وقد أرسلا إلى السلطان العثماني سليم الأول إحدى السفن التي أسروها فقبلها منهما، وأجزل لهما العطاء، فقويت شوكتهما. واستقر الاخوان في حلق الوادي، ميناء يونس، حيث التف حولهما معظم المجاهدين المسلمين وسيطرا على الجزائر، واستشهد عروج بربروسا فعين السلطان العثماني أخوه خير الدين بربروسا قائداً للأسطول العثماني بحيث أصبحت أوروبا تحسب ألف حساب لقوة أسطوله.

“معركة بريفيزا” بريشة ثيودور كريستو. لوحة زيتية للمعركة البحرية التاريخية بين البحرية العثمانية بقيادة خير الدين بربروسا باشا والبحرية الغربية المسيحية بقيادة النقيب أندريا دوريا.

تحالف أوروبي صليبي

ورداً على ذلك شكل الصليبيون الإسبان والطليان (مملكة جنوه) تحالفاً ضد المسلمين فى شمال إفريقيا بقيادة أندريه دوريا الذي حارب العثمانيين لأحد عشر عاماً بين عامي 1530 و 1541، وهاجموا جزر اليونان، غير أن خير الدين برباروس بأمر من السلطان سليمان القانوني أعد أسطولاً قوياً، وفتح كورون ولبانتو وتونس وأغار على سواحل إيطاليا الجنوبية وجزيرة صقلية. وفي النهاية بسط النفوذ على غربي البحر المتوسط وذلك في عام (941هـ / 1535م).

فتح تونس

وفي تونس قد عزل برباروس مولاي حسن آخر السلاطين الحفصيين، وعين مكانه أخاه الرشيد. إلا أن أندريا دوريا قائد التحالف الصليبي وتحت قيادة عاهل النمسا وإسبانيا شارلكان (كارلوس الخامس هابسبورج) تمكن من احتلال تونس في نفس العام، حيث أعاث جنوده في تونس تقتيلاً وفساداً وانتهاكاً للحرمات. وأعاد حسن الحفصي إلى الحكم بعد معاهدة معه، سمحت للمسيحيين بالاستيطان في إقليم تونس، وإقامة شعائرهم الدينية بحرية، ودفع الحفصي تكاليف الحرب، وتنازل لشارلكان عن بنزرت وعنّابة، وبهذا اضطر خير الدين برباروس من الانسحاب إلى الجزائر.

وقد ظلت تونس مجال نزاع بين الطرفين إلى أن استقرت نهائياً في أيدي العثمانيين (3).

التحالف مع فرنسا

ورداً على ذلك التحالف قام العثمانيون بالتحالف مع فرنسا وتم التوصل إلى المعاهدة المعروفة باسم “الامتيازات الأجنبية” عام (943ه 1536م)، وهذا التحالف ساعد إلى حد كبير على بروز فرنسا خلال القرن السادس عشر، فالأسطول العثماني في غربي البحر المتوسط كان يحمي جناح فرنسا الجنوبي ضد أي هجوم يشنه أعداؤها، مما أتاح لملوكها تركيز قوتهم في الشمال وتأمين حدود فرنسا (2).

وتلا توقيع معاهدات الامتيازات الأجنبية عقد حلف بين فرانسوا الأول وسليمان في مواجهة أسرة الهابسبورج، على أن يبقى أمره في طي الكتمان حتى لا يتعرض العاهلان لسخط شعبيهما فى وقت كان يسوده التعصب الديني (4).

وقد قام الحلف العثماني الفرنسي بشن هجوم مشترك على إيطاليا. حيث هاجم العثمانيون بحراً من الجنوب والفرنسيون برّاً من الشمال. وكان العثمانيون قد فكروا باستمرار في غزو إيطاليا ولكنهم ترددوا في ذلك خشية تصدي أوروبا لهم على أن فرنسا قد شجعت العثمانيين على الإقدام على هذه الخطوة وذلك لمطامع فرنسا بانتزاع جزيرة كورفو من مملكة البندقية.

وبهذا تقدم الفرنسيون في شمالي إيطاليا للاستيلاء على ميلانو وجنوة، وفي نفس الوقت بدأ برباروس سلسلة من الغارات على أملاك الهابسبورج في غربي البحر المتوسط وأواسطه، في الوقت الذي أعد فيه السلطان سليمان جيشاً قوامه ثلاث مائة ألف جندي وبدأ في تحريكه صوب ألبانيا لكي يقوم خير الدين بنقله إلى إيطاليا.

لكن التحالف العثماني الفرنسي انهار على إثر صيحات الرأي العام النصراني في أوروبا ضد فرنسا وتحالفها مع الدولة العثمانية المسلمة التي تقاتل النمسا الدولة النصرانية فما كان من ملك فرنسا فرانسوا الأول إلا أن خضع للرأي العام الصليبي، وهادن ملك النمسا، وأخلف بما وعد به العثمانيين من غزو مشترك لإيطاليا. وقد كان عرّاب الصلح بين فرنسا والنمسا هو بابا الفاتيكان الذي كان يريد توحيد أوروبا ضد العثمانيين (5).

ولم يكتف فرانسوا بعقد الصلح مع شارلكان امبراطور الهابسبورج في النمسا وإسبانيا، بل إنه وعد بالاشتراك في حملة صليبية ضد العثمانيين وسحب جيوشه من شمالى إيطاليا. وقد غضب خير الدين بربروس بسبب هذا الصلح واستولى على معظم جُزر بحر إيجة الذي أصبح تحت السيطرة العثمانية.

كان لسيطرة العثمانيين على بحر إيجه وقع كبير في أوروبا وبهذا اشتبك الأسطول الصليبي بقيادة أندريه دوريا مع البحرية العثمانية بقيادة خير الدين بربروس. وقد أوقع خير الدين هزيمة كبرى بالأسطول الصليبي عند بريفيزا القاعدة البحرية العثمانية الرئيسية في ألبانيا.

الصلح مع أيطاليا والنمسا وإسبانيا

وفي عام (947هـ / 1540م) تم عقد الصلح مع جمهورية البندقية التي تخلت عن آخر أملاكها في شبه جزيرة المورة، واعترفت بالحكم العثماني لجُزر بحر إيجه، كما وافقت على دفع غرامه كبيره مقابل اعتراف العثمانيين باستمرار حكمها لجزيرتي كريت وقبرص وعودة الامتيازات التجارية التي كانت تتمتع بها في الدولة العثمانية، وبهاذا انهارت السيادة البحرية التي تمتعت بها البندقية (2).

وفي عام (600هـ / 1542م) طلب ملك فرنسا فرانسوا الأول من جديد مساعدة السلطان، وبعد أن أغار خير الدين على سواحل إيطاليا توجه إلى سواحل فرنسا الجنوبية حيث استقبل وبحارته استقبالاً كبيراً إلا أن الضغوط الأوروبية على ملك فرنسا جعلته يتخلى عن وعوده السابقة بالتعاون مع السلطان ضد إمبراطور النمسا شارلكان في إيطاليا، لهذا احتل خير الدين طولون ونيس وبعض سواحل إسبانيا وإيطاليا. وقد أدى موقف ملك فرنسا إلى أن يعقد السلطان سليمان هدنه مع شارلكان ملك النمسا وإسبانيا في عام (952ه 1545م) على أساس اعتراف النسما وإسبانيا بالفتوحات العثمانية الجديده، ووعده بأن يدفع جزية عن مناطق شمالي وغربي المجر التي كانت لا تزال في أيدي الهابسبورج (أي مملكة النمسا وإسبانيا)، وقد تحولت الهذنة إلى صلحٍ دائم في عام (954ه 1547م) بعد وفاة ملك فرنسا فرانسوا الأول.

الخاتمة

إن أي تحالف مع دول أوروبيه مسيحية مثل فرنسا يتعارض ويتضارب مع المصالح المسيحية حيث أن الفرنسيين كاثوليك في معظمهم ويدينون بالولاء لبابا روما، وهذا أدى إلى انتهاء التحالف مع فرنسا بسرعة.

بهذا سيطر العثمانيون على بحر إيجه وغرب المتوسط خلال فترة حكم السلطان سليمان القانوني، ودامت تلك السيطرة حتى الحرب العالمية الأولى في حوالي عام (1330ه 1912م) وتبعها سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية في عام (1342ه 1924م).

المراجع

  • (1) تاريخ الدولة العثمانية، المير ألاي إسماعيل سرهنك، 1988، دار الفكر الحديث للطبع والنشر.
  • (2) في أصول التاريخ العثماني، أحمد عبد الرحيم مصطفى، ISBN 9789770901335، دار الشروق، 1993.
  • (3) التاريخ الإسلامي – ج 8: العهد العثماني‎، محمود شاكر
  • (4) الدولة العثمانية : دولة اسلامية مفترى عليها، عبدالعزيز محمد الشناوي، مكتبة الأنجلو المصرية، 1980.
  • (5) الدولة العثمانية في التاريخ الاسلامي الحديث، إسماعيل أحمد ياغي، مكتبة العبيكان، 1996.

Loading

اترك تعليقاً