سيغموند فرويد

أعلام لا توجد تعليقات

ولد عام 1856 وتوفي عام 1939. فقد عاش في النصف الثاني من القرن العشرين؟ صحيح أن هذا القرن يضج بالعبقريات والفلاسفة الكبار الذين لا يمكن التقليل من أهميتهم على الإطلاق. فهناك برتراند رسل ولودفيغ فتجنشتاين في إنكلترا، وهناك جان بول سارتر في فرنسا، وقد وصل إلى شهرة عالمية. وهناك هوسيرل مؤسس الفلسفة الظاهراتية وتلميذه هيدغر في ألمانيا. هذا من دون أن ننسى كارل ياسبرز ومدرسة فرانكفورت، وأخيراً هامبرس الذي يسيطر على الوضع الفلسفي في الغرب ولا ينبغي أن ننسى باشلار، وكارل بوبر، وغادامير، وفوكو، وريكور، وعشرات غيرهم، هناك إذن مشاهير كثيرون أثروا في هذا القرن، ولكني أعتقد أن تأثير فرويد كان بالغاً وحاسماً. صحيح أن نظرية التحليل النفسي تتعرض الآن لمراجعات وتحديات، بل وأخذ بعضهم يشكك في علميتها أو في صحتها. يضاف إلى ذلك أن علم الأعصاب النفسية الذي ظهر أخيراً أخذ ينافسها على أرضيتها الخاصة. ولكن فرويد على الرغم من ذلك ظل صامداً. فمن هو فرويد يا ترى؟ وكيف أصبح زعيماً لمدرسة فكرية غزت العالم بأسره؟ فلا يوجد بلد في العالم بدون تحليل نفسي أو محللين نفسيين.

فرويد، مصدر الصوره ويكيبيديا

معارك فرويد الفكرية

 كان فرويد يحب أن يعرف نفسه على النحو التالي: «أنا لست رجل علم بالمعنى الأكاديمي والشائع للكلمة. ولست ملاحظاً، ولا مجرباً. أنا بحكم الطبيعة والمزاج لست إلا فاتحاً ومكتشفاً مع كل خصائص الفضول المعرفي، والجرأة والعناد وبقية الصفات التي يتميز بها هذا النوع من البشر”. 
في الحقيقة أن جمع المفكرين الكبار كانوا يتميزون بهذه الصفة الأساسية: الجرأة والاقتحام، أو بالأحرى الجرأة على الاقتحام حيث يجُبن الآخرون. 
ألم يكن هيغل يعتبر نفسه، ولو ضمنياً، بمنزلة نابليون الفكر؟ لماذا كان معجباً بنابليون قلب المعركة الحامية. والمعارك الفكرية. أقصد المعارك الداخلية، لا تقل ضراوة عن المعارك العسكرية، كيف تجرأ فرويد على اقتحام أعماقه النفسية الداخلية لكي يكتشف حقائق مريرة كان يفضل ألا يكتشفها أبداً؟ لم يتراجع فرود عندما توصل إلى كل هذه الحقائق المرعبة التي يتمنى الإنسان لو يموت من دون أن يكتشفها. وذلك لأنه كان من جنس المفكرين الكبار، هذا الجنس النادر في التاريخ. فعندما يقترب المرء من منطقة الحقائق الساخنة، عندما يوشك على كشف الحقيقة المخبوءة التي لا تعطي نفسها لأحد يصبح أمام أمرين: فإما أن يتقدم، وإما أن يتراجع، إما أن يقتحم وإما أن ينهزم. بهذا المعنى نقول بأن الفكر ليس بحاجة فقط إلى أكاديميين متبحرين في العالم ويجمعون من المعلومات ما هب ودب. فقد تكون أكبر أكاديمي في عصرك وأكبر جامع للمعلومات من دون أن تكون مفكراً.

المفكر هو ذلك الشخص الغريب العجيب الذي يرمي بنفسه في فوهة الهاوية أو يمشي على حافة الخطر وهو يشعر بمتعة عندما انخرط فرويد في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر في التحليل النفسي كان يعرف أنه يدخل في مغامرة مرعبة غير مضمونة العواقب. ولكنه على الرغم من ذلك مشى في المغامرة حتى نهايتها. وكانت النتيجة أنه شفي من أمراضه وأوجاعه واكتشف قارة مجهولة، ظلماء معتمة، هي: اللاوعي. كانت النتيجة أنه خرج علينا بأحد أهم الكتب التي شهدها هذا القرن في مطلعة: تفسير الأحلام (1900). لقد كان فرويد ينبش في أعماقه النفسية، في مطاوي طفولته الغامضة، كما ينبش عالم الآثار في أعماق الأرض بحثاً عن الآثار المتبقية من الحضارات المنقرضة. كان يمشي عكس التيار ويعرف حجم المجازفة التي يرتكبها بذلك. كان يريد أن يصل إلى المنبع الأول، إلى الأصل المؤسس للشخصية البشرية. ولم يكن يفعل ذلك لحسابه الشخصي فقط، وإنما من أجل البشرية كلها. كان يعرف أن تاريخ الطفل في نموه يشبه تاريخ البشرية منذ بدائيتها الأولى وحتى نضجها، فكل شخص يلخص في ذاته مجمل البشرية.

لكن فرويد لم يفعل إلا أن طبق ذلك المبدأ السقراطي البسيط اعرف نفسك بنفسك. عندما كنا صغاراً كانوا يعلموننا في المدرسة هذا المبدأ البسيط. وأذكر أني عندما سمعت به لأول مرة على يد أحد الأساتذة أصبت بالدهشة والذهول بل وشعرت بالانزعاج. وقالت بيني وبين نفسي: وهل هناك من شخص لا يعرف نفسه؟ ما هذا الغباء؟ ما هذه الثرثرة الفارغة؟ بعد أن كبرت، وبعد مرور سنوات طويلة، عرفت أن هذا المبدأ هو أساس كل معرفة، وأن الإنسان قد يعرف كل شيء ما عدا نفسه. وعرفت عندئذ أن فرويد ليس بداية لشيء ما بقدر ما هو خاتمة لمسار طويل عريض: هو مسار الفكر البشري بمجمله وليس فقط الفكر الأوروبي. فكل المفكرين اضطروا في لحظة ما إلى الاختلاء بأنفسهم، والغوص في أعماقهم لمعرفة ماذا حصل يوماً ما في تلك الطفولة الشقية، في تلك الطفولة البعيدة. وعن طريق هذا الغوص في الأعماق والأقاصي حصلت الاكتشافات العلمية والفلسفية الكبرى. وبالتالي فقد كان هناك أسلاف لفرويد، ولم يكن هو وحده الذي اكتشف التحليل النفسي أو منطقة اللاوعي. كل الفكر البشري كان يسير منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة نحو هذا الاكتشاف الهائل تجرأ عليه فرويد أخيراً في هجمة اقتحامية قل نظيرها في التاريخ. فمن سقراط وحتى تبلور نظرية التحليل النفسي بكل مناهجها ومصطلحاتها مررنا بشخصيات كبيرة ليس أقلها ديكارت، أو كانت، أو شوبنهاور، أو نيتشه، أو عشرات غيرهم.

كل فكر هو إضاءة لمنطقة معتمة في الماضي أو في الحاضر، والناس يرتاحون عندما تضيء لهم مشاكلهم وتجعلهم يفهمونها على حقيقتها، فالتشخيص الصحيح نصف العلاج. عندما كان فرويد يحلل أعماقه النفسية من خلال أحلامه كان يعرف بأنه يحلل أعماق الجماعة البشرية بأسرها. صحيح أن يونغ هذا الذي مشى في هذا الخط أكثر من غيره، ولكن فرويد فتح له الطريق. فقد كان يقول مثلاً: «نأمل أن نتوصل عن طريق تحليلنا للأحلام إلى معرفة الإرث العميق للإنسان. ويبدو أن الأولى وحتى نضجها، فكل شخص يلخص في ذاته مجمل البشرية. لكن فرويد لم يفعل إلا أن طبق ذلك المبدأ السقراطي البسيط اعرف نفسك بنفسك. عندما كنا صغاراً كانوا يعلموننا في المدرسة هذا المبدأ البسيط. وأذكر أني عندما سمعت به لأول مرة على يد أحد الأساتذة أصبت بالدهشة والذهول بل وشعرت بالانزعاج. وقالت بيني وبين نفسي: وهل هناك من شخص لا يعرف نفسه؟ ما هذا الغباء؟ ما هذه الثرثرة الفارغة؟ بعد أن كبرت، وبعد مرور سنوات طويلة، عرفت أن هذا المبدأ هو أساس كل معرفة، وأن الإنسان قد يعرف كل شيء ما عدا نفسه.
 وعرفت عندئذ أن فرويد ليس بداية لشيء ما بقدر ما هو خاتمة لمسار طويل عريض: هو مسار الفكر البشري بمجمله وليس فقط الفكر الأوروبي. فكل المفكرين اضطروا في لحظة ما إلى الاختلاء بأنفسهم، والغوص في أعماقهم لمعرفة ماذا حصل يوماً ما في تلك الطفولة الشقية، في تلك الطفولة البعيدة. وعن طريق هذا الغوص في الأعماق والأقاصي حصلت الاكتشافات العلمية والفلسفية الكبرى. 
وبالتالي فقد كان هناك أسلاف لفرويد، ولم يكن هو وحده الذي اكتشف التحليل النفسي أو منطقة اللاوعي. كل الفكر البشري كان يسير منذ أكثر من ألفين وخمسمائة سنة نحو هذا الاكتشاف الهائل تجرأ عليه فرويد أخيراً في هجمة اقتحامية قل نظيرها في التاريخ. فمن سقراط وحتى تبلور نظرية التحليل النفسي بكل مناهجها ومصطلحاتها مررنا بشخصيات كبيرة ليس أقلها ديكارت، أو كانت، أو شوبنهاور، أو نيتشه، أو عشرات غيرهم. 
كل فكر هو إضاءة لمنطقة معتمة في الماضي أو في الحاضر، والناس يرتاحون عندما تضيء لهم مشاكلهم وتجعلهم يفهمونها على حقيقتها، فالتشخيص الصحيح نصف العلاج. عندما كان فرويد يحلل أعماقه النفسية من خلال أحلامه كان يعرف بأنه يحلل أعماق الجماعة البشرية بأسرها. صحيح أن يونغ هذا الذي مشى في هذا الخط أكثر من غيره، ولكن فرويد فتح له الطريق. فقد كان يقول مثلاً: «نأمل أن نتوصل عن طريق تحليلنا للأحلام إلى معرفة الإرث العميق للإنسان. 
ويبدو أن الحلم والعصاب قد احتفظا لنا من مرحلة ما قبل تاريخ الروم بأشياء كثيرة، بل وأكثر ما نتوقع. ولهذا السبب فإنه يحق للتحليل النفسي أن يطالب بمرتبة رفيعة بين العلوم. أقصد العلوم التي تحاول جاهدة أن تعيد تركيب المراحل الأكثر قدماً والأكثر غموضاً لأصل البشرية.

أول محلل نفسي

لقد اعتبر فرويد نفسه مريضاً مثله في ذلك مثل المرضى الآخرين الذين يجيئون إليه للمعالجة. فهو أيضاً له أحلامه، وهفواته، وعصبيته، وعصابة، مثله في ذلك مثل أي كائن بشري على وجه الأرض، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين أنه كان أول محلل نفسي في التاريخ. وبالتالي فقد حلل نفسه بنفسه بكل موضوعية، ودرس أحلامه وكأنها تنتمي لشخص آخر. ولكن الواقع هو أن فرويد اعتمد على مراسلة أحد أصدقائه (ويلهيلم فلييس) لكي يحلل أعماقه ويكشف بكل صراحة عن عقده وأوجاعه.

ولهذا السبب فعندما عثرت ماري بونابرت عام 1938 على رسائله الخاصة إلى فلييس حاول منعها من نشرها. ورجا منها أن تعطيها له لكي يحرقها، ولكنها أصرت على موقفها لحسن الحظ وقامت بنشرها. وهكذا عرفنا أشياء كثيرة عن حياة فرويد النفسية السرية. عرفنا حجم المعارك التي خاضها مع نفسه قبل أن يتوصل إلى اكتشافه الكبير والفهم الآن لماذا أراد حرقها فلا أحد يرغب أن يعري نفسه على حقيقتها؟ من يتجرأ على الاعتراف بعقده النفسية ومشاكله الداخلية؟ ينبغي ألا ننسى أن فرويد كان متزوجاً وأباً ويعيش حياة بورجوازية في فيينا. وبالتالي فكان يحرص على حياته الشخصية ويتمنى ألا تصل أخبارها إلى الناس. ولكنه على الرغم من ذلك كشف لنا الكثير من عقده الشخصية من خلال كتابين أساسيين هما: «علم النفس المرضي للحياة اليومية»، والتفسير الأحلام». هذا بالإضافة إلى رسائله إلى «فلييس» التي أراد منع نشرها، ولا نستطيع أن نطالبه بأكثر من ذلك، فالإنسان إنسان في نهاية المطاف.

يقول فرويد إن الإبداع ناتج عن العقد النفسية، وأنه يأتي كتعويض عن هذه العقد التي تعذب النفس من الداخل ولا تتركها ترتاح. 
فالإبداع ليس إلا محاولة للتغلب على ما يعتمل في داخل النفسي، لقهرها، للتفاوض معها على الأقل. ويقول عن دوستيوفسكي بما معناه: يمكن للتحليل النفسي أن يكشف عن عشرات العقد والهلوسات في دوستيوفسكى، الشخص والإنسان. ولكن ماذا يستطيع أن يفعل أمام دوستوفسكي المبدع أو الفنان؟

المراجع

Loading

اترك تعليقاً