في الحَسد: هارون الرشيد والأموي

ثقافة لا توجد تعليقات

قيلَ لهارون الرشيد أن بدمشق رجلا من بني أمية عظيم المال والجاه كثير الخيل والجند، يخشى على المملكة منه وكان الرشيد يومئذ بالكوفة، قال منارة خادم الرشيد: فاستدعاني الرشيد وقال : اركب الساعة إلى دمشق وخذ معك مائة غلام وائتني بفلان الأموي، وهذا كتابي إلى العامل لا توصله له إلا إذا امتنع عليك. فإذا أجاب فقيده وعادله بعد أن تحصي جميع ما تراه وما يتكلم به، واذكر لي حاله ومآله، وقد أجلتك لذهابك ستاً، ولمجيئك ستاً، ولإقامتك يومًا، أفهمت؟ قلت: نعم. قال : فسر على بركة الله .

هارون الرشيد بريشة خليل جبران

فخرجت أطوي المنازل ليلا ونهاراً لا أنزل إلا للصلاة أو لقضاء حاجة حتى وصلت ليلة اليوم السابع باب دمشق، فلما فُتح الباب ذهبت قاصداً بيت ذلك الأُموي، فإذا هي دار عظيمة هائلة، ونعمة طائلة، وخدم وحشم، وهيبة ظاهرة، وحشمة وافرة، ومصاطب متسعة، وغلمان فيها جلوس، فهجمت على الدار بغير إذن، فبهتوا وسألوا عني، فقيل لهم: إن هذا رسول أمير المؤمنين، فلما صرت في وسط الدار رأيت أقوامًا محتشمين، فظننت أن المطلوب فيهم، فسألت عنه، فقيل لى: هو في الحمام، فأكرموني، وأجلسوني، وأمروا بمن معي ومن صحبني إلى مكان آخر، وأنا أتفقد الدار، وأتأمل الأحوال، حتى أقبل الرجل من الحمام ومعه جماعة كثيرة من كهول وشبان وحفدة وغلمان، فسلم عليّ وسألني عن أمير المؤمنين ، فأخبرته وأنه بعافية، فحمد الله تعالى، ثم أحضرت له أطباق الفاكهة فقال: تقدم يا منارة كل معنا، فتأملت تأملا كثيرًا إذ لم يمكنني، فقلت: ما آكل، فلم يعاودني، ورأيت ما لم أره إلا في دار الخلافة، ثم قدم الطعام، فوالله ما رأيت أحسن ترتيبًا، ولا أعظر رائحة، ولا أكثر آنية منه، فقال: تقدم يا منارة، فكل. قلت: فحرت لكثرة حفدته، وعدم من عندي.

فلما غسل يديه أحضر له البخور فتبخر، ثم قام فصلى الظهر، فأتم الركوع والسجود، وأكثر من الركوع بعدها، فلما فرغ استقبلني وقال: ما أقدمك يا منارة؟

فناولته كتاب أمير المؤمنين، فقبله ووضعه على رأسه، ثم فضه وقرأه، فلما فرغ من قراءته استدعى جميع بنيه وخواص أصحابه وغلمانه وسائر عياله، فضاقت الدار بهم على سعتها، فطار عقلي، وما شككت أنه يريد القبض عليّ، فقال : الطلاق يلزمه الحج والعتق والصدقة، وسائر إيمان البيعة لا يجتمع منكم اثنان في مكان واحد حتى ينكشف أمره، ثم أوصاهم على الحريم ثم استقبلني وقدم رجليه وقال : هات يا منارة قيودك ، فدعوت الحداد فقيده وحمل حتى وضع في المحمل وركبت معه في المحمل، وسِرنا.

فلما صرنا في ظاهر دمشق ابتدأ يحدثني بانبساط ويقول: هذه الضيغة لي تعمل في كل سنة بكذا وكذا، وهذا البستان لي وفيه من غرائب الأشجار وطيب الثمار كذا وكذا، وهذه المزارع يحصل أي منها كل سنة كذا وكذا، فقلت: يا هذا ألست تعلم أن أمير المؤمنين أهمه أمرك حتى أنفذني خلفك وهو بالكوفة ينتظرك، وأنت ذاهب إليه ما تدري ما تقدم عليه، وقد أخرجتك من منزلك ومن بين أهلك ونعمتك وحيدًا فريدًا، وأنت تحدثني حديثًا غير مفيد ولا نافع لك ولا سألتك عنه، وكان شغلك بنفسك أولى بك ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد أخطأت فراستى فيك يا منارة ما ظننت أنك عند الخليفة بهذه المكانة إلا لوفور عقلك، فإذا أنت جاهل عامي لا تصلح لمخاطبة الخلفاء، أما خروجي على ما ذكرت فإني على ثقة من ربي الذي بيده ناصيتي(1) وناصية أمير المؤمنين، فهو لا يضر ولا ينفع إلا بمشيئة الله تعالى، فإن كان قد قضي علي بأمر فلا حيلة لي بدفعه ولا قدرة لي على منعه، وإن لم يكن قد قدر علي بشيء فلو اجتمع أمير المؤمنين وسائر من على وجه الأرض على أن يضروني لم يستطيعوا ذلك إلا بإذن الله تعالى، وما الى ذنب فأخاف، وإنما هذا واش وشى عند أمير المؤمنين بهتان(2)، وأمير المؤمنين كامل العقل، فإذا اطلع على براءتي فهو لا يستحل مضرتي، وعليّ عهد الله لا كلمتك بعدها إلا جوابا. ثم أعرض عني وأقبل على التلاوة.

وما زال كذلك حتى وافينا الكوفة بكرة اليوم الثالث عشر، وإذا النجب قد استقبلتنا من عند أمير المؤمنين تكشف عن أخبارنا، فلما دخلت على الرشيد قبلت الأرض، فقال: هات يا منارة أخبرني من يوم خروجك عني إلى يوم قدومك عليّ، فابتدأت أحدثه بأموري كلها مفصلة والغضب يظهر في وجهه، فلما انتهيت إلى جمعه لأولاده وغلمانه، وخواصه وضيق الدار بهم، وتفقدي لأصحابي، فلم أجد منهم أحدًا اسودّ وجهه، فلما ذكرت يمينه عليهم تلك الإيمان المغلظة تهلل وجهه، فلما قلت إنه قدم رجليه أسفر وجهه واستبشر، فلما أخبرته بحديثي معه في ضياعه وبساتينه وما قلت له، وما قال لي هذا رجل محسود على نعمته، ومكذوب عليه، وقد أزعجناه وأرعبناه وشوشنا عليه وعلى أولاده وأهله.

اخرج إليه، وانزع قيوده، وفكه وأدخله عليّ مكرمًا، ففعلت، فلما دخل قبل الأرض، فرحب به أمير المؤمنين وأجلسه، واعتذر إليه، فتكلم بكلام صحيح، فقال له أمير المؤمنين: سل حوائجك، فقال : سرعة رجوعي إلى بلدي وجمع شمالي بأهلي وولدي قال: هذا كائن، فسل غيره؟ قال: عدل أمير المؤمنين في اعماله ما أحوجني إلى سؤال. قال: فخلع عليه أمير المؤمنين، ثم قال: يا منارة اركب الساعة معه حتى ترده إلى المكان الذي أخذته منه، قام في حفظ الله وودائعه ورعايته ولا تقطع أخبارك هنا وحوائجك، فانظر حسن توكله على خالقه، فإنه من توكل عليه كفاه ومَن دعاه لباه، ومَن سأله أعطاه ما تمناه.

(1) الناصية: مقدم الرأس .
(2) البهتان : الكذب والافتراء .

Loading

اترك تعليقاً