مستعمرات الألمان في فلسطين

بُلدان ومدن لا توجد تعليقات

بحث للدكتور علي محافظةالجامعة الأردنية

الغاية من هذا البحث دراسة المستعمرات الألمانية في فلسطين منذ تأسيس أولاها عام 1868 وحتى نهاية الحكم العثماني عام 1918. وتعالج هذه الدراسة الدوافع الدينية والسياسية والاقتصادية التي كانت دافعاً لإنشاء هذه المستعمرات، ومدى صلتها بالمخططات السياسية الألمانية في الدولة العثمانية. كما أنها تتناول طبيعة العلاقات بين المستعمرين الألمان والسكان العرب الفلسطينيين، من جهة، وبينهم وبين المستعمرين اليهود، من جهة أخرى. وتستعرض أيضاً موقف السلطات الرسمية العثمانية من هذه المستعمرات.

مشاريع استعمار فلسطين في النصف الأول من القرن التاسع عشر:

فتحت حملة نابليون بونابرت على مصر وبلاد الشام (1798-1801) باب الصراع الدولي في الشرق العربي على مصراعيه. وأطلقت العنان لمخططي السياسة الاستعمارية في أوروبا، فقدموا مشروعات عديدة ترمي إلى تجزئة الدولة العثمانية واقتسام ممتلكاتها، في وقت بلغ الجشع الاستعماري، مع انتشار الثورة الصناعية، أوجه. وكانت فلسطين بحكم موقعها الجغرافي والاستراتيجي وأهميتها الدينية هدفاً لمخططي هذه السياسة. فمنذ عام 1800 نشر الكاتب البريطاني جيمز بيتشينو James Bicheno كتاباً بعنوانThe Restauration of Jews, the crisis of All Nations دعا فيه إلى تجميع يهود العالم في فلسطين، تحقيقاً للنبوءات التوراتية، وسعياً إلى حل الأزمات التي تجتاح الدول المسيحية والدولة العثمانية. وعلق بيتشينو آمالاً واسعة على فرنسا النابليونية لتحقيق هذا المشروع. غير أن مبادرة نابليون بجمع “مجلس أعلى” لليهود لاستغلاله كأداة سياسية، منيت بالفشل. ولذلك اتجهت الأنظار إلى الدول البروتستانتية (بريطانيا وبروسيا) لتحقيق هذا المشروع. ولقيت آراء بتشينو صدى واسعاً في بريطانيا، وأعيدت طباعة كتابه السابق الذكر عام 1807.

وقد أعجب بالفكرة اللورد آشلي Lord Ashley الذي أخذ يدعو لها منذ خريف عام 1838. وفي رأيه أن جمع اليهود على أرض فلسطين سيكون خطوة أولى نحو تنصيرهم، كما أن استعمار فلسطين ضرورة للاقتصاد البريطاني الذي شهد آنذاك ازدهاراً وتوسعاً نتيجة للثورة الصناعية. وبضغط من آشلي قبل قريبه اللورد بالمرستون Lord Palmerston رعاية عودة اليهود إلى فلسطين، وحماية الحكومة البريطانية للمقيمين منهم في الدولة العثمانية. وكان للكتاب الذي ألفه اللورد ليندسي Lord Lindsay وصدر عام 1838 “Letters on Egypt, Edom and the Holy Land” “رسائل عن مصر وايدوم والأرض المقدسة”، والذي تضمن تحبيذه لفكرة جمع اليهود في فلسطين، صدى واسع في نفس اللورد آشلي. فقام الأخير بجمع الأموال لتنفيذ مشروع جمع اليهود على أرض فلسطين.

أثار المشروع اهتمام الحكومة البريطانية والصحافة اللندنية. فقد تناولت صحيفة التايمز Times في عددها الصادر في 24 كانون الثاني عام 1839 الأفكار الرئيسية التي نادى بها آشلي وأيدت “حق الشعب اليهودي في العودة إلى فلسطين”. وربطت المسألة اليهودية بالأزمة السياسية القائمة بين محمد علي باشا والسلطان العثماني. أما وزارة الخارجية البريطانية فقد أصدرت في 31 كانون الثاني 1839 تعليماتها إلى W. T. Young نائب القنصل المعين حديثـاً (19/9/1838) في القدس لبسط حمايته على كافة اليهود المقيمن في فلسطين.

ونشأت في الوقت نفسه حركة بين اليهود في بريطانيا تدعو إلى استعمار فلسطين. ففي ربيع عام 1838 زار موشي مونتفيوري (Moses Montefiore)، الثري والمحسن اليهودي، فلسطين، وعرج على مصر لمفاوضة محمد علي باشا في مشروع يرمي إلى تأجير منطقة الجليل (نحو 200 قرية) له لمدة خمسين سنة، وأن يدفع له مقابل ذلك أجراً سنوياً. وكان في نية مونتفيوري أن ينشىء شركة استعمارية في بريطانيا، في حالة موافقة محمد علي باشا على مشروعه، من أجل تشجيع يهود أوروبا على الهجرة إلى فلسطين. غير أن مباحثات مونتفيوري مع محمد علي باءت بالفشل، عندما أكد والي مصر أنه لا يستطيع التصرف بأرض لا يملكها. واستمر مونتفيوري في نشاطه دون جدوى؛ وزار فلسطين سبع مرات بين عامي 1827 و 1875. كان مشروع مونتفيوري هذا مقدمة للمشروع الصهيوني الذي مرّ بمراحل عدة طوال القرن التاسع عشر.

وبعد جلاء قوات محمد علي عن بلاد الشام، اقترح هلموت فون مولتكه (Helmuth Von Moltke) الضابط في الحرس الملكي البروسي، الذي عمل بين عامي 1835 و1839 في إعادة تنظيم الجيش العثماني، مشروعاً آخر لاستعمار فلسطين. وورد هذا المشروع في مذكرات فون مولتكه (تولى رئاسة أركان الجيش البروسي من 1857 إلى 1888 لمدة ثلاثين عامًا) التي نشرها في صحيفة (Augusburger Allgeneine Zeitung) عام 1841 تحت عنوان: “ألمانيا وفلسطين Deutschland und Plasestina”. وقد شرح الضابط الألماني مشروعه هذا بتفاصيل دقيقة أثارت اهتمام الرأي العام الألماني والأوروبي. وينص المشروع على إنشاء “مملكة القدس” لتجعل من فلسطين مركزاً متقدماً للحضارة الأوروبية، وأنموذجاً للتطور الاقتصادي في الشرق، ودولة واقية بين مصر وسورية في حالة قيام مملكة وراثية في مصر، تحول دون أي اعتداء على الدولة العثمانية، وجسراً يربط أوروبا بالقارة الهندية. ويرى مولتكه أن قيام هذه المملكة سيكون بعثاً للتقاليد والقيم الصليبية، ونصراً معنوياً عظيماً تحققه المسيحية في العالم. واقترح أن يكون على رأس هذه الدولة أمير ألماني يتمتع بسلطة مطلقة، ويتّصف بروح متسامحة. فهو يرى أن اعتلاء أمير ألماني لعرش مملكة القدس، سوف يبعد فلسطين عن تأثير المنافسات السياسية القائمة آنذاك بين الدول البحرية الأوروبية. كما أن تمتعه بسلطة مطلقة سيساعد في فرض النظام على بلد متخلف “لم يبلغ سكانه بعد مستوى حضارة اليونان، الذي تؤهله للمطالبة بالحكم الذاتي”. هذا وتحمس لمشروع مولكته ملك بروسيا، فريدريش فيلهلم الرابع (Friedrich Wilhelm IV) وتبنّاه، فعرضه على ملوك أوروبا فلم يقبلوا به.

وبقيت فكرة استعمار فلسطين تشغل بال العديد من رجال الدين والسياسة والاقتصاد في أوروبا؛ غير أننا سنقتصر على هذه المشروعات التي كانت تمهيداً للمشروع الاستعماري الألماني، الذي بدأ تنفيذه في نهاية الستينات من القرن التاسع عشر.

جمعية الهيكل الألمانية واستعمار فلسطين

تعود جمعية الهيكل الألمانية (Deutsche Tempelgesellschaft) في أصولها إلى حركة الأتقياء Pietismus التي ظهرت في ألمانيا في القرن السابع عشر، كحركة دينية إصلاحية في الكنيسة الإنجيلية، أكدت على دراسة الكتاب المقدس، وعلى الخبرة الدينية الشخصية. واستمرت هذه الحركة الدينية حتى مطلع القرن التاسع عشر، وتركزت حول تيوزوفن بينجل Theosophen Bengel، الذي بشّر بقيام مملكة الرب وعودة المسيح إلى الأرض في أعقاب كوارث مريعة تنجم عن الابتعاد عن الروح المسيحية. ودعا بينجل كلّ تقي أن يبحث له عن مكان في الشرق، لقرب قيام مملكة الرب هناك. ورأى بينجل وأتباعه في نابليون بونابرت الشيطان المناهض للمسيح. ومع نهاية نابليون، اعتقد بينجل أن لا بد من مرور بعض الوقت حتى تتم التغيرات الكبرى. وتوقع أن تتم عودة المسيح عام 1836.

وفي عام 1817 حلّت مجاعة بمملكة فورتمبرغ Wurttemberg، فانتهز بينجل هذه الحالة، ودعا أتباعه إلى الهجرة إلى الشرق. فهاجر آلاف الفلاحين من هذه المملكة إلى جنوب روسيا، حيث رحب بهم القيصر إسكندر الأول. واعتقد كثيرون منهم أن ترحيب القيصر الروسي نداء إلهي لا بد من تلبيته. وتمت هجرة هؤلاء الألمان تحت إشراف البارون فون بيركهايم Von Berkheim. وسمح لهم القيصر بإدارة شؤونهم إدارة ذاتية.

أما مملكة فورتمبرغ فقد رأت في هجرة مواطنيها خطراً يتهددها، لذلك لجأت إلى مختلف الوسائل للحيلولة دون هجرتهم. وتقدم النائب العام في المملكة باقتراح على حكومته ينص على السماح لهؤلاء المتدينين بتشكيل جمعيات خاصة بهم، تتمتع بشيء من الاستقلال الذاتي. قبلت حكومة فورتمبرغ هذا لاقتراح، وتشكلت أول جمعية دينية في فورتمبرغ على يد غوتليب هوفمان G. M. Hoffmann، رئيس بلدية ليونبرغ Leonberg في تشرين الأول عام 1818. وفي صيف عام 1819 بدأ أعضاء الجمعية الجديدة بالاستيطان في قرية من أملاك الفارس كورنتال Kornthal، قرب مدينة شتوتجارت Stuttgart، وبنوا منازل لهم عليها مع دار للاجتماعات العامة.

في كورنتال ترعرع ابنا غوتليب هوفمان: فيلهلم (الأكبر) وكريستوف، وتربيا تربية دينية؛ فحصل الأول على منصب ديني رفيع في بلاط ملك بروسيا، وهو منصب قسيس البلاط Hof prediger، بينما ورث الثاني، الذي يصغره بتسع سنوات، أباه في رئاسة الجمعية الدينية. درس كريستوف الفلسفة والتاريخ في جامعة توبنجن Tuebingen. واشتغل في التعليم. ولما اشتد ساعد الحركة العلمانية المناهضة للمسيحية في ألمانيا، في الأربعينات من القرن التاسع عشر، برزت هذه الجمعية الدينية للدفاع عن المسيحية، معتبرة المبادئ المسيحية الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها الإصلاح الاجتماعي في ألمانيا. وتولى كريستوف مهمة الدفاع عن هذا الاتجاه الديني. وأصدر في أيار عام 1845، بالتعاون مع صديقه عمانويل باولوس Immanuel Paulus، الصحيفة الأسبوعيةDie Sueddeutsche Warte للتعبير عن هذا الاتجاه المسيحي الإصلاحي.

وجاءت أحداث عام 1848 الثورية في ألمانيا، فأدخلت الرعب في قلب كريستوف هوفمان. وتأكد له من أحداث ذلك العام الرهيبة أن “مسيحية الكنيسة مقتصرة على الوعظ الديني المجرد من الحياة، وأنها قائمة على قوة العادة، وعاجزة عن وقف التفكك والانحلال”. ووجد أن “المسيحية قد تخلت عن مهمتها الأساسية الروحية، وغاصت في أوحال المادية، وتمسكت بالقشور الخارجية”. ورشح نفسه في ذلك العام عن مدينة لودفيجزبورغ Ludwigsburg في الانتخابات العامة للبرلمان الاتحادي الألماني “البندستاغ Bundestag”، الذي كان مقرّه مدينة فرانكفورت على الماين. وكان على مملكة فورتمبرغ أن تقدم 28 نائباً عنها إلى ذلك البرلمان. فاز هوفمان على خصمه مرشح الأوساط الليبرالية العلمانية، فكان النائب الوحيد في البرلمان الاتحادي الألماني الذي يمثل حركة الأتقياء الألمان.

وجد هوفمان في الاتجاهات الليبرالية والثورية، التي لقيت من يعبر عنها ويمثلها في برلمان فرانكفروت، دليلاً على فشل الكنيسة الإنجيلية في القيام برسالتها. فعاد إلى منطقته وبدأ الدعوة إلى إنشاء كنيسة حرة من الأوساط المتديّنة الورعة، وتأسيس جمعية إنجيلية Evangaelische Verein مستقلة عن الكنيسة الإنجيلية الرسمية؛ وكان مساعده الأيمن في دعوته هذه جورج دافيد هارديج Gerog David Hardegg، الذي تعرّف عليه عام 1848، وصديقه عمانويل باولوس.

واتخذت هذه الحركة الدينية اتجاهاً جديداً عام 1853، مع اندلاع حرب القرم بين الدولة العثمانية وروسيا، إذ سرى اعتقاد لدى الأوروبيين أن الدولة العثمانية على شفا الانهيار، وأن تَفَكُّكها بات وشيكاً. وجاءت الاضطرابات الدينية التي حدثت في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية، لتشد أنظار المتدينين الألمان إلى الأرض المقدسة. وبرز كريستوف هوفمان يدعو إلى سلخ فلسطين عن الدولة العثمانية، وجعلها موطناً لشعب الله Das Volk Gottes، تنفيذاً لوعود الأنبياء الواردة في التوراة. وشعب الله هذا ليس الشعب اليهودي، الذي لم يعد له وجود، وإنما هو الشعب المسيحي الإنجيلي.

وفي 24 آب عام 1854 دعت لجنة أصدقاء القدس، التي تشكلت من أتباع هوفمان، إلى اجتماع عام يعقد في فالدهورن Waldhorn، قرب لوفيجزبورغ، من أجل بحث الوسائل اللازمة لتحقيق مشروع هوفمان. واقترح هارديج في هذا الاجتماع التوجه إلى البندستاغ، في فرانكفورت، والطلب منه أن يسعى لدى السلطان العثماني للسماح للألمان باستعمار فلسطين، من أجل إيجاد عمل للعاطلين عن العمل في ألمانيا. وكان الشعار الذي طرحه هارديج في هذا الاجتماع “ينبغي إيجاد عمل للشعب الألماني” “”die deutsche Nation muss Arbeit Haben.”. ونفذ اقتراح هارديج، ووَقّع العريضة 439 شخصاً، وحملها هوفمان وهارديج وقدماها إلى البارون فون بروكش Von Brokesch، رئيس البندستاغ. غير أننا لا نعلم شيئاً عن استجابة البندستاغ لهذه العريضة أو رفضها.

وتولّت مجلة Sueddeutsche Warte، الناطقة باسم الجماعة الدعوة إلى المشروع الجديد. وأخذت في الوقت نفسه تشنّ هجوماً على كنيسة فورتمبرغ الإنجيلية الرسمية. وفي هذه الأثناء كتب فيلهلم هوفمان، من برلين، إلى شقيقه ينصحه بالبقاء في حوزة الكنيسة الإنجيلية، والابتعاد عن مغامرات هارديج. غير أن كريستوف لم يُعِر بالاً لهذه النصيحة، وكتب مشروع دستور للجمعية الجديدة سماه “مشروع دستور شعب الله”Verfassungsentwurf des Volkes Gottes. فتشكلت الجمعية في عام 1854 تحت اسم “جمعية تجميع شعب الله في القدس”Gesellschaft fuer Sammlung des Volkes Gottes in Jerusalem، وجعلت هدفها السعي لجمع شعب الله في القدس لبناء مملكة الرب. ورأى قادة الجمعية أنهم بحاجة إلى مزيد من الأعداد على أرض الوطن، لجمع أكبر عدد ممكن من الألمان وغيرهم قبل الهجرة إلى فلسطين. وقام هوفمان وهارديج برحلات عديدة في أوروبا، وحضرا في خريف عام 1854 مؤتمراً دينياً في باريس، وعرضا عليه مشروعهما، فلقي اهتماماً من المؤتمرين.

وتبرعت بعض الأسر الثرية بالأموال لشراء الأراضي الواجب تجميع شعب الله عليها في ألمانيا قبل الانطلاق إلى استعمار فلسطين. فتم شراء قطعة واسعة من الأرض في كيرشنهاردتهوف (Jirchenhardthof)، قرب فينندن Winnenden تحت منبع نهر النيكر Necker، عام 1856. وتمكن هوفمان وهارديج من جمع عدد كبير من الأنصار، أُطلِق عليهم اسم “أصدقاء القدس Jerusalem Freunde”، بلغ عددهم حوالي عشرة آلاف شخص. وساهمت سنوات الجدب التي شهدتها مملكة فورتمبرغ، خلال السنوات الأولى من تشكيل هذه الجمعية، في كسب العديد من الأنصار الراغبين في الهجرة إلى فلسطين.

وانتهت حرب القرم عام 1856 دون أن تسفر عن انهيار الدولة العثمانية، كما كان يتوقع هوفمان وأنصاره. وشَنَّت الكنيسة الإنجيلية الوطنية في فورتمبرغ، بتشجيع ودعم من حكومتها، حملة شديدة على أصدقاء القدس. فأخذت أعدادهم تقلّ تدريجياً.

وفي صيف عام 1858 قررت الجمعية إرسال وفد مؤلف من هوفمان وهارديج والمزارع بوبيك Bubeck إلى فلسطين، إيماناً منها بأن المسألة الشرقية لم تُحَلّ بمؤتمر باريس عام 1856، وأن لا بد من دراسة إمكانية استعمار فلسطين. وصل الوفد إلى فلسطين، والتقى بمطران القدس الانجليكاني صموئيل غوبات Samuel Gobat، وبالمبشر الإنجيلي شنِلِّر Schneller، فشرحا للوفد أوضاع فلسطين، ولم يشجّعاه على تنفيذ مشروعه. وجمع الوفد معلومات جيدة عن البلاد من القنصلية البروسية في القدس. ولما عاد إلى ألمانيا نشر هوفمان تقريراً عن الزيارة في مجلة Sueddeutsche Warte، بَيّن فيه المصاعب التي تعترض الاستيطان في فلسطين، وأوضح أن لا بد من الاستعداد لذلك. ودامت فترة الاستعداد هذه عشر سنوات.

دخل هوفمان وأنصاره في أثناء ذلك في خلاف مع كنيسة فورتمبرغ الإنجيلية، أدى إلى طردهم منها في 7 تشرين الأول عام 1859. واضطروا إلى إنشاء طائفة دينية خاصة بهم. فقدّم هوفمان اقتراحاً إلى مجلس الجمعية بتسمية الطائفة “الهيكل الروحي Der geistliche Tempel” أو “طريق الخلاصDer Weg Zur Rettung”. أما فكرة “الهيكل” وتسمية الجمعية به، فتعود إلى القس المعمداني جاكوب أمان Jakob Amman، الذي أنشأ في برن Bern، بسويسرا، بهذا الاسم عام 1963، بهدف إعادة بناء هيكل الرب في القدس. ولا صلة لهذه التسمية بجمعية “فرسان الهيكل” التي تشكلت في مطلع القرن الثاني عشر، واستمرت في نشاطها حتى نهاية احتلال الفرنجة لبلاد الشام في نهاية القرن الثالث عشر.

واشتدت حملة الكنيسة الإنجيلية على الطائفة الجديدة، فتفرق العديد من أفرادها؛ غير أنها استطاعت أن تحافظ على بقاء بعضهم في حظيرتها، وأن تكسب إلى صفوفها العديد من الأتباع خارج ألمانيا، وبخاصة في أوساط المهاجرين الألمان في أمريكا الشمالية وجنوب روسيا.

وأعيد تنظيم الجماعة في كيرشنهاردتهوف عام 1861 تحت اسم جماعة الهيكل الألمانية Deutscher Tempel، من أجل تجديد حياة “شعب الله” الدينية والاجتماعية. وحتى تكسب الجمعية ولاء العناصر القومية الألمانية، رفعت شعارات قومية ألمانية. وجاء في أحد بياناتها: “إن روح الشعب الألماني ومزاياه ينبغي أن تكون الطابع المميز لهيكل القدس واستعمار فلسطين … ولا بد من السعي لدى سلطة ألمانية (أو دولة ألمانية) لمتابعة تحقيق هذا الهدف”.

واستمر قادة الجمعية يحضرون المؤتمرات الدينية التي كانت تعقد في برلين ولندن وبيرن وجنيف، ويتجولون في العواصم والمدن الأوروبية الكبرى يدعون إلى تحقيق مشروعهم. فقد شارك هارديج في المؤتمر الذي عقد في جنيف عام 1867، والذي كان ضيف الشرف فيه غار يبالدي Garibaldi، بطل الحرية في إيطاليا. كما حضر حفل إنشاء الصليب الأحمر على يد السويسري هنري دينان Henri Dunant، الذي أبدى اهتمامه بشؤون الشرق العربي في فترة مبكرة، فقد أصدر كتاباً في باريس بعنوان “تجديد الشرق La Rénovation de I’Orient” عام 1865. وقام دينان أثناء إقامته في باريس بإنشاء جمعية العمل الدولي من أجل تجديد فلسطينOeuvre Internationale de la Rénovation de la Palestine، وتولى منصب سكرتيرها العام؛ وتولى إنشاء فروع لها في باريس. وأقام هارديج صلات وثيقة مع دينان. وتولى الأخير توجيه نداءات إلى فروع “الجمعية الدولية لتجديد فلسطين”، من أجل هيمنة المسيحيين على فلسطين عن طريق الاستيطان السلمي.

وسعى دينان لدى السفير العثماني في باريس جمال باشا، ولدى الوزير المفوض الفرنسي في إسطنبول المسيو بوريه Bourrée، من أجل حث الباب العالي على السماح للمستعمرين الألمان، من جمعية الهيكل، بشراء الأرض في فلسطين والاستقرار فيها. وتحت ضغط دينان جاء الجواب من الباب العالي يطلب تحديد موقع الأرض التي يريد المستعمرون الألمان شراءها. فاتصل دينان بهارديج، واقترح عليه إرسال مهندس مختص إلى فلسطين من أجل اختيار الموقع المطلوب وتحديد مساحته. وكتب رسالة إلى هارديج مؤرخة في 24 كانون الثاني عام 1868 يقول فيها: “من المعروف جيداً أن إرسال مهندس من أوروبا أمر مكلف (10000 – 15000 فرنك)، وهذا مبلغ أولى بجمعيتكم أن توفره لها. ولذلك قمنا بالاتصال بعدد من الأشخاص، وبخاصة بالوزير المفوض بوريه، ليسأل إذا كان بالإمكان إيجاد مهندس قدير وأمين، وبأجر قليل، في إسطنبول أو في أي مكان آخر في الشرق. واتصلنا بدورنا بمحل لوفنتال Loewnthal في يافا لهذا الغرض. ولكننا لم نستطع أن نحصل على المهندس المطلوب. وربما كان من الأفضل لو أن جمعيتكم اختارت مهندساً من بين أعضائها، وكلفته بالسفر إلى فلسطين …”. وفشل دينان وهارديج في العثور على المهندس المطلوب. وأخيراً قررت الهيئة الإدارية لجمعية الهيكل، في اجتماع عقدته في 24 آذار 1868 في كيرشنهارتهوف، أن يقوم هوفمان وهارديج بالسفر إلى فلسطين في آب من العام نفسه، من أجل إنشاء أول مركز، Tempel Post، للجمعية على أرض فلسطين. وقد سرّ دينان بهذا القرار، وكتب إلى هارديج في 8 نيسان 1868 يقول: “آمل أن نتمكن من إحراز بعض التقدم في عملنا في هذا الصيف. وكلما طال الزمن زاد اقتناعي بذلك. يمكنك الاعتماد علي، إنني مؤمن بمستقبل فلسطين … وسيكون لجمعيتكم الشرف الكبير في إنشاء أول مستعمرة على الأرض المقدسة …”.

وفي 6 آب 1868 سافر زعيما جمعية الهيكل، هوفمان وهارديج، من كيرشنهاردتهوف مع أسرتيهما إلى فلسطين. ومَرَّا بفينّا حيث قابلا البارون فون أورزي Von Orsi، من وزارة الخارجية النمسوية، فوعدهما بأن يقدم ممثلو الحكومة النمسوية الدبلوماسيون النصائح والمساعدات الضرورية لهما. كما مرا ببودابست، وقابلا فرانز دياك Franz Deák، صاحب فكرة الاتحاد النمسوي – الهنغاري. وأخيراً وصلا إلى إسطنبول، حيث رحّب بهما الوزير المفوض لرابطة دول شمال ألمانيا Der Norddeutsche Bund، الذي كان قد تلّقى تعليمات من البلاط الملكي البروسي بتقديم التسهيلات اللازمة لهما، نتيجة وساطة شقيق هوفمان، القس في البلاط البروسي. وفي 15 أيلول 1868 تَقدّم هوفمان وهارديج بطلب إلى الباب العالي للموافقة على شراء قطعة من الأرض مساحتها ثلاثة أميال مربعة على جبل الكرمل في حيفا. وجاء اختيار موقع القطعة بتوصية من المفوضية الألمانية. وأوضحا في طلبهما هذا أن الغرض من الاستقرار في فلسطين ديني محض، وليس له أية أبعاد سياسية، وأن الاستيطان هناك سيقتصر على أعضاء جمعية الهيكل، وسوف يتم بصورة تدريجية. كما أبانا أيضاً دور الجمعية المقبل في تطوير الزراعة والصناعة في البلاد، ولذلك طالبا بإعفاء المستوطنين الألمان من الضرائب لمدة تتراوح بين خمس وسبع سنوات، حتى يتمكنوا من تدبير أمورهم. وأبديا رغبة المستوطنين في إدارة شؤونهم بأنفسهم، دون أي تدخل من السلطة الحاكمة.

واتصل هارديج بالوزراء المفوضين لدول النمسا وفرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة وروسيا وهولندا والسويد، وقال لهم: “إن ظروف شعبنا أقنعتنا بأن الوقت قد حان لبناء هيكل الرب في الأرض المقدسة؛ فأقوال الأنبياء في العهدين القديم والجديد تعتبر بناء الهيكل الوسيلة الوحيدة لسعادة الشعوب والأفراد على حد سواء”. ورغم النشاط الحثيث الذي بذله زعيما جمعية الهيكل طوال مدة إقامتهما في إسطنبول (45 يوماً)، لم يحصلا على الفرمان المطلوب. فغادرا العاصمة العثمانية في 8 تشرين الأول 1868 باتجاه بيروت، فوصلا إليها بعد أربعة عشر يوماً. وقابلا هناك القنصل البروسي العام الدكتور فيبر Dr. Weber، فقدم إليهما عدداً من النصائح، ومنها أن لا يتنازلا عن الجنسية الألمانية، وأن يرفضا الجنسية العثمانية، لكي يتمتعا بحماية القناصل الألمان. ومن بيروت سافرا إلى حيقا فبلغاها في 30 تشرين الأول عام 1868.

كان من الأسباب التي دفعت زعيمي جمعية الهيكل إلى البدء بمشروعهما الاستيطاني في فلسطين، صدور القانون العثماني السادس عشر من حزيران عام 1867، الذي أباح للرعايا الأجانب حق التملك في المدن والريف في كافة الولايات العثمانية. وأصبح هذا القانون نافذ المفعول في حزيران 1868. لذلك اعتقد زعيما جمعية الهيكل أن الطريق أمامهما قد فتح لشراء الأرض في فلسطين والاستقرار عليها.

مستعمرة الهيكليين في حيفا

عند وصول هوفمان وهارديج إلى حيفا، استقبلهما نائب القنصل البروسي في المدينة، الهر تسيفوس Ziphos، وقدم لهما كل ما يحتاجان إليه من عون ومساعدة. وفي الأيام الأولى من إقامتهما وصل رد الباب العالي على طلبها، يؤكد استحالة السماح لهما بشراء الأرض في حيفا إلا إذا حصلا على الجنسية العثمانية. ولكن هذا الرد لم يثنهما عن مشروعهما؛ فأجريا اتصالات بالبلاط البروسي، الذي أصدر تعليماته إلى الوزير المفوض لرابطة دول شمال ألمانيا في إسطنبول بضرورة التوسط لدى الباب العالي، وتذكير المسؤولين العثمانيين بأنهم سمحوا لرعايا دول أوروبية أخرى بشراء الأرض دون التجنّس بالجنسية العثمانية.

مستعمرة الهيكليين الألمان في حيفا وتبدوا أسفل مقام البهائيين يتوسطها شارع عريض يصل للميناء

غير أن هوفمان وهارديج لم ينتظرا نتائج الاتصالات الدبلوماسية، وبتشجيع من تسيفوس قاما بشراء قطعة من الأرض مساحتها عشر هكتارات عن طريق الاحتيال على القانون العثماني، إذ تم الشراء عن طريق وسيط يحمل الجنسية العثمانية، وقام بدوره بتأجيرها لهما لمدة طويلة. ولما احتج القاضي على عملية البيع، سويت القضية بتدخل نائب القنصل البروسي.

وبدأ بناء أول مستعمرة ألمانية في فلسطين على قطعة الأرض هذه، التي كانت تمتد من شاطئ البحر حتى سفح جبل الكرمل، في ربيع عام 1869. ودُشّنت المنازل الاثنا عشر التي بنيت على هذه الأرض في آذار 1870 من قبل نائب القنصل البروسي تسيفوس، واشتملت آنذاك على منازل للسكن، وبناء لمدرسة، وآخر للصلاة. وقد وضَعَ تصميم هذه المنازل والأبنية مهندس دنماركي جاء من بيروت، اسمه .Loyved وعلى مدخل المستعمرة نقشت العبارة التالية باللغة الألمانية “لتنسني يميني إن نسيتك يا قدسVergesse ich dein Jerusalem, So wurde meiner Rechten vergessen (1969)”، وحرص هوفمان وجماعته على بناء المستعمرة على الطراز الألماني، وفتح الشوارع الواسعة فيها، وتزيينها بالأشجار والزهر والورود. كما اهتمت الهيأة الإدارية للجمعية باختيار أفضل العناصر من أعضائها للهجرة إلى فلسطين، من أجل إقامة مجتمع متماسك مستقلّ عن المحيط العربي؛ كما حرصت على إقامة صلات وثيقة بالوطن الأم، وعلى الحفاظ على مستوى حياتهم كأوروبيين في حيفا.

ونَمَت هذه المستعمرة بقدوم مهاجرين جدد من كيرشنهاردتهوف، وبخاصة بعد إبرام اتفاقية بين مملكة روسيا والدولة العثمانية في 7 حزيران 1869، نصّت على السماح للألمان بالإقامة والاستقرار في فلسطين. فبلغ عدد سكان المستعمرة في بداية 1873 (254) نسمة. وبلغ عدد بيوتها (31) بيتاً، استعمل عشرون بيتاً إلى جانبها كمعامل وورش للعمل. وفي عام 1902 بلغ عدد سكانها 517 نسمة، وبلغ عدد منازلها 92 منزلاً، وإلى جانبها 95 ورشة عمل. وبلغ عدد سكانها عند اندلاع الحرب العالمية الأولى (750) نسمة. ونقص عدد سكانها بسبب الاحتلال البريطاني لفلسطين 1917/1918، واعتقال العديد من الألمان، وتهجير بعضهم قسراً إلى ألمانيا في نهاية الحرب العالمية الأولى، والسنوات الأولى التي تلت توقيع معاهدة الصلح بين ألمانيا والحلفاء عام 1919.

اعتنى الألمان في السنوات العشر الأولى من استيطانهم في حيفا بزراعة الكرمة، وبناء معامل لإنتاج النبيذ. غير أن مرضاً أصاب الكرمة في الثمانينات من القرن التاسع عشر، فقاموا باقتلاعها. وكذلك أصيبت أشجار الحمضيات التي زرعوها بأمراض أدت إلى اقتلاعها. عند ذلك انصب اهتمامهم على زراعة الزيتون، الذي كانوا يستخرجون منه صابوناً من نوع جيّد، كانوا يصدرونه لألمانيا وأمريكا الشمالية.

وأقاموا في المستعمرة طاحونة هوائية على الطراز الهولندي، كما أنشأوا مزرعة للألبان. وانصرفوا تدريجياً عن الزراعة، واتجهوا نحو التجارة والصناعة. حتى أصبحوا محور الحياة الاقتصادية في حيفا. وكانوا رواداً في الصناعات والحرف اليدوية وتجارة الاستيراد والتصدير. وأدخلوا إلى حيفا المكتبات الحديثة، والأمسيات الموسيقية، والنوادي المسرحية، والنشاط الرياضي؛ فكانت مثلاً يحتذى من قبل السلطات العثمانية في المدينة.

مستعمرة يافا:

في آذار عام 1869 وفد إلى هوفمان زائر من يافا من أصدقائه الذين تعرَّف بهم في بازل، هو المبشر الإنجيلي زالميلر Saalmueller، يرافقه الألماني ميسلر Messler، الذي اشترى المستعمرة الأمريكية في يافا والمعروفة باسم “قرية آدامز Adams City، وجاء يعرضها على الهيكليين الألمان بسعر معقول. ومن المعروف أن هذه المستعمرة المؤلفة من تسعة عشر بيتاً من الخشب، قد أنشأتها طائفة دينية أمريكية جاءت إلى فلسطين لتشهد عودة المسيح إلى الأرض، كما تعتقد. ولكنها هجرت المستعمرة بعد أن تبين لأتباعها أن النبوءة بعودة المسيح لم تتحقق، وبعد أن فتكت بهم الأمراض.

لقي العرض الذي تقدم به ميسلر استجابة لدى الهيكليين، فاشتروا خمسة منازل منها بمبلغ (65) ألف فرنك فرنسي أول الأمر، ثم ما لبثوا أن اشتروا ثلاثة أرباعها في مطلع عام 1871، وبعد ذلك بعامين أصبحت المستعمرة بأكملها ملكاً لهم.

وفي أيار 1869 انتقل هوفمان من حيفا إلى المستعمرة الجديدة، وأوكل إدارة مستعمرة حيفا إلى رفيقه هارديج. وباشر فور وصوله ببناء مستشفى صغير ودار للضيافة Gasthaus.

وحدث أن قام ولي عهد بروسيا، الأمير فريدريش Friedrich، بالحج إلى القدس في ذلك العام، بعد أن حضر الاحتفالات بفتح قناة السويس؛ فنزل في يافا في 2 تشرين الثاني عام 1869، وزار المستعمرة الألمانية الجديدة. وكتب هوفمان عن هذه الزيارة في مجلة الجمعية، Sueddeutsche Warte في عددها الصادر في 15 تشرين الثاني 1869، يقول: “لقد استقبلناه (ولي عهد بروسيا) على مدخل المستعمرة، فنزل عن جواده وتحدث إلى العديد منا بروح ودية، ثم تجول في المستعمرة، وزار منزل رئيس الجمعية، واتجه بعد ذلك إلى دار الضيافة، حيث تناول مع حاشيته طعام الفطور. وودعناه بعد ذلك، فركب جواده، يرافقه جنود البحرية (الألمان)، والباشا (العثماني)، والجند الأتراك نحو الرملة ..”. هذا وقد تبرع الأمير البروسي ببعض المال للجمعية. وبلغت مساحة مستعمرة يافا هذه ستين هكتاراً.

مستعمرة سارونا Sarona

توسع المستوطنون الهيكليون في يافا في نشاطهم، واشتروا في عام 1871 قطعة من الأرض على طريق يافا – تل أبيب مساحتها 78 هكتاراً، (بسعر الهكتار الواحد مئة غولد Guld). وبدأ بناء المنازل على قطعة الأرض هذه في 27 آب 1871، فكانت المستعمرة الألمانية الثالثة في البلاد. وتولى تصميم الأبنية والتخطيط للمستعمرة المهندس الألماني ثيودور زاندلTheodor Sandel، ابن طبيب المستعمرة الهيكلية في يافا الدكتور زاندل، وقد انتقل إلى المستعمرة نائب القنصل الألماني في يافا، أفندي (أرمني الأصل).

انتشرت الحمى بين سكان المستعمرة في عام 1872، وفتكت بثمانية وعشرين شخصاً من مجموع سكان المستعمرة، البالغ حوالي مئة نسمة.

اشتهرت مستعمرة سارونا بزراعة الزهور والكرمة وتربية الأبقار، كما وجد فيها معمل لإنتاج النبيذ.

وفيما يلي بيان بتطور هذه المستعمرة بين عامي 1872 و1926:

السنةعدد السكانالمساحة بالهكتارمعدل المساحة للفرد الواحد بالهكتار
187263781,2
18801622231,4
18982634691,7
19142004742,4
19262254922,2
جدول يوضح التنامي السكاني في مستعمرة سارونا

مستعمرة ريفايم Rephaim

اشترى الهر فرانك Frank، أحد أعضاء جمعية الهيكل في مستعمرة يافا، قطعة من الأرض في ريفايم، شمال غربي محطة سكة حديد القدس، خارج حدود البلدية، في نيسان عام 1872، وبنى عليها منزلاً وطاحونة تعمل بالماء. وأخذ أعضاء الجمعية يتوافدون إليه ويشترون الأرض المجاورة. واعتنى سكان المستعمرة الجديدة بإصلاح العربات التي تجرها الخيول. فمنذ عام 1867 فتحت طريق للعربات بين يافا والقدس، وكانت بذلك أول طريق للعربات في فلسطين. واهتم الألمان بالنقل بين يافا والقدس، وأصبح منتظماً بعد بضع سنوات من إنشاء المستعمرة الجديدة.

أصبحت مستعمرة ريفايم منذ عام 1878 المقر العام لإدارة جمعية الهيكل؛ وبلغت مساحتها 25 هكتاراً. وكان معظم سكانها يشتغلون بالحرف اليدوية والتجارة والصناعة، واشتملت على مدرسة ثانوية كاملة وروضة للأطفال.

مستعمرة فالهالا Walhala

أنشأها المستعمرون الألمان في يافا عام 1892 على طريق يافا – تل أبيب. وأقيم في هذه المستعمرة مستشفى لمعالجة الألمان المقيمين في المستعمرات الألمانية في جنوب فلسطين (يافا، سارونا، فيلهلما). وكان سكانها يمارسون التجارة والصناعة والحرف اليدوية، ويعملون في وكالات التأمين والنقل البحري. وأنشئ في المستعمرة معمل للإسمنت. وبنت (فندق القدس) في يافا الذي كان من أجمل فنادق المدينة.

مستعمرة فيلهلما Wilhelma

أنشئت على يد المستوطنين الألمان في مستعمرتي يافا وسارونا عام 1902، على بعد خمسة أميال إلى الشمال الشرقي من اللد، وسط سهل خصيب، بالقرب من سكة حديد اللد – حيفا. بلغ عدد سكان المستعمرة في العام الأول من إنشائها 94 نسمة. وفيما يلي بيان بتطور هذه المستعمرة بين عامي 1903 و1926:

السنةعدد السكانالمساحة بالهكتارمعدل المساحة للفرد الواحد بالهكتار
1903948248,8
19141959194,6
19262159594,5
جدول يوضح التنامي السكاني في مستعمرة فيلهلما

مستعمرة نويهاردهوف Neuhardhof

أنشأها المستعمرون الألمان في حيفا من أجل الحصول على مزيد من الأرض، خارج نطاق المستعمرة الهيكلية الأولى في البلاد. وتقع المستعمرة الجديدة على بعد أربعة أميال إلى الجنوب من جبل الكرمل. وبلغت مساحتها أربعمئة هكتار. وقد استُغلّت أرض المستعمرة لزراعة الخضروات والحبوب.

مستعمرة بيت لحم في الجليل Bethlehem

أنشأها المستوطنون الألمان في حيفا عام 1906، بأموال من “جمعية شتوتجارت لتطوير الاستعمار الألماني في فلسطين”، على أرض قرية بيت لحم الواقعة على سفوح جبال الجليل، والتي تبعد بضعة أميال عن مدينة الناصرة. أما مساحتها فألف وسبعمائة هكتار، زُرِع ثلثها بأشجار البلوط، والباقي بأشجار الكرمة والفواكه والحبوب. وفيما يلي بيان بنمو هذه المستعمرة بين عامي 1907 و1926:

السنةعدد السكانالمساحة بالهكتارمعدل المساحة للفرد الواحد بالهكتار
19071071854,8
19144171813,3
1926987185,4
جدول يوضح التنامي السكاني في مستعمرة بيت لحم في الجليل

مستعمرة فالدهايم Waldheim

أنشئت هذه المستعمرة عام 1907 بالقرب من بير سالم على يد المسؤولين عن دار الأيتام السورية Das Syrische Waisenhous، لتكون مركزاً لتدريب خريجيها واستغلالها لتمويل دار الأيتام. ولذلك لا صلة لها بمستعمرات جمعية الهيكل.

مستعمرة شمه Chemeh

كانت تتبع بدورها دار الأيتام السورية في القدس، ولم تختلف عن مستعمرة فالدهايم من حيث الأغراض التي أنشئت من أجلها.

اشتملت كل مستعمرة من مستعمرات الهيكليين على قاعة للاجتماعات العامة، وأخرى للعبادة، ومدرسة، وروضة أطفال أو أكثر، وجمعيات للموسيقى، وناد رياضي، ومستوصف صغير أحياناً..

المصاعب الداخلية التي واجهها المستعمرون الألمان:

في السنوات الأولى للاستيطان واجه المستعمرون الهيكليون صعوبات ومتاعب عديدة بعضها أمني وبعضها الآخر اقتصادي واجتماعي. لذلك أهملوا الأمور الروحية، وفشلوا في كسب أنصار جدد لحركتهم في فلسطين وفي ألمانيا. وبلغ مجموع من استقر منهم في فلسطين بين عامي 1868 و 1875 نحو سبعمئة وخمسين عضواً، أي نحو ربع عدد أعضاء الجمعية. وبعد عام 1875 أخذت جمعية الهيكل في الاضمحلال التدريجي في ألمانيا نفسها، وتوقفت منذ ذلك العام هجرتهم من ألمانيا، ومات معظم الجيل الأول من هؤلاء المستعمرين في أواخر السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر.

أدرك الجيل الجديد تعذر تحقيق الغاية من هجرتهم إلى فلسطين، وهي جمع “شعب الله” في القدس وإقامة مملكة المسيح. وتركّز اهتمامهم على تحسين أحوالهم، وتقديم نمط معين من المعيشة للسكان المحليين. وساهم هذا التغيّر في أهداف الجمعية في جعل الحياة أسهل.

كانت أول الصعوبات التي واجهها المستعمرون الهيكليون في فلسطين النزاع بين زعيمي الجمعية، كريستوف هوفمان وجورج هارديج: كان هوفمان المؤسس الروحي للجمعية، وكان هارديج المنفذ لفكرة المستعمرات. أما أسباب الخلاف بينهما فشخصية، تدور حول كيفية تطوير الاستيطان الألماني، وحول بعض الآراء الدينية.

فقد تولى كل منهما إدارة مستعمرة مستقلة عن الأخرى. وكانت مستعمرة حيفا من نصيب هارديج بينما كانت مستعمرة يافا من نصيب هوفمان. وكان هارديج قد أسرع إلى شراء أراضٍ تابعة لمستعمرته دون التنسيق مع هوفمان. وعارض هارديج بشدة نقل المعهد الثانوي إلى ريفايم، قرب القدس. وحصل خلاف بين هارديج والهيأة الإدارية لجمعية الهيكل في شتوتجارت، حول أموال صندوق الاستعمار التابع للجمعية، Jolinisations Kasse. ورفض هارديج أن يجيب عن كيفية صرفه لهذه الأموال، فاتهمته الهيأة الإدارية بالتبذير. وكان لسلوكه المتصلب أثر في ابتعاد الهيكليين في فلسطين عنه؛ فقد كان منفّراً في تصرفاته. ولما أجريت الانتخابات لاختيار القيادة الجديدة للجمعية، عام 1874، لم ينجح هارديج. فما كان منه إلا أن أعلن انسحابه من الجمعية. وصدرت مجلة الجمعية “Suddeutsche Warte” في 17 تموز 1874 بآخر مقال له بعنوان “وداعي لجمعية الهيكل “Mein Abschied von der Gesellschoft des Tempels”، أكد فيه التزامه بمبادئ الجمعية رغم انفصاله عنها. وخرج مع هارديج عدد من أصدقائه، فشكلوا “رابطة الهيكل، Der Tempelverein”. ومنذئذ تولى القيادة العليا للجمعية كريستوف هوفمان، الذي أصبح يتمتع بسلطات واسعة. فأعاد تنظيمها بحيث أصبح لها مجلس استشاري، Temperlrat، مؤلف من مئة عضو. ووثّقت الجمعية صلاتها بفروعها في ألمانيا وأمريكا الشمالية وجنوب روسيا، بأن أصبح لهذه الفروع ممثلون في مجلس الجمعية الاستشاري. وفي مطلع أيلول من عام 1874 دعي ممثلون عن فروع الجمعية للمشاركة في عيدها الذي أقيم في حيفا. وبناء على قرار مجلس الجمعية اعتُبِر يوم التاسع من أيلول عيداً لها. وتم الاحتفال بهذا العيد الأول بحضور المندوبين المذكورين. ومنذئذ تكررت اللقاءات في هذا العيد الذي كان القصد من استحداثه الحفاظ على الولاء للجمعية.  

وحدث انقسام جديد في صفوف جمعية الهيكل، سببه الخلاف بين هوفمان ودافيد شتراوس، David Strauss، خليفة هارديج في إدارة مستعمرة حيفا، حول أسرار الكنيسة المقدسة، وتعاليم الثالوث الأقدس، وألوهية المسيح، وموت المسيح الابن. وكان تأثير هوفمان العقلاني على جماعته قوياً جداً. لذلك بقيت أكثرية أعضاء الجمعية تدين له بالولاء. وانفصل عدد ضئيل من الأعضاء وأخذ يتقرب من الكنيسة الإنجيلية.

واستغلت الكنيسة الإنجيلية الانقسامات في صفوف جمعية الهيكل، فأوفدت القس راينكه Reineche، من القدس منذ عام 1879 إلى مستعمرات الهيكليين. وقام خليفته القس شلخت، Schlicht، بالمهمة نفسها. وفي عام 1891 قررت “جمعية بيت المقدس،  الإنجيلية إرسال معلم إلى مستعمرة حيفا ليقوم بتدريس أبناء الطائفة هناك، المنشقين عن هوفمان. وبعد ذلك بعام واحد بنيت مدرسة لهذه الغاية. وعندها قررت جمعية بيت المقدس إرسال القس ديكرت، Deckert، إلى حيفا. وبذلك أصبح للطائفة الإنجيلية في حيفا مدرستها وكنيستها. وبلغ عدد الأسر التي عادت إلى حظيرة الكنيسة الإنجيلية من مستعمرة حيفا الهيكلية عشرين أسرة.

وكان للحرب العالمية الأولى آثار سلبية على المستعمرات الألمانية، إذ منيت بخسائر فادحة على الصعيد الاقتصادي. ومع ذلك بلغ عدد المستوطنين الألمان في عام 1918 نحو ألفي نسمة.

الحركة الثقافية في المستعمرات الهيكلية الألمانية في فلسطين:

سعى كريستوف هوفمان، الزعيم الروحي لجمعية الهيكل، منذ وصوله إلى فلسطين إلى إنشاء مؤسسة تعليمية تهيئ التلاميذ من أبناء أعضاء الجمعية إلى الالتحاق بالتعليم الجامعي في ألمانيا. كتب هوفمان إلى رفيقه باولوس في 28 أيار 1870 يقول: “إن المدارس تشغل بالي ليل نهار”. وكان هم هوفمان تنشئة أجيال جديدة مؤمنة بالرسالة التي كرس نفسه لها. ولم تكن المدارس التي أنشأتها الجمعية في مستعمراتها السابقة الذكر مجرد مدارس دينية، وإنما كانت تدرّس الرياضيات والعلوم الطبيعية والعلوم الفنية والتاريخ والجغرافيا واللغات الحديثة (الألمانية والفرنسية والعربية). وكان التعليم الديني أساسياً في هذه المدارس.

ولعل أبرز إنتاج ثقافي للهيكليين في فلسطين هي مؤلفات زعيمهم كريستوف هوفمان وجورج هارديج: فقد تولى الأول رئاسة تحرير مجلة الجمعية، Sueddeutsche Warte، التي كانت تصدر في شتوتجارت مدة طويلة من الزمن، وأصدر في عام 1875، كتاباً مهماً هو “الغرب والشرق: تاريخ ثقافي من وجهة نظر جماعة الهيكل في فلسطين:

Okzident und Orient: Eine Kulturgeschichte Betrachtung Vom Standpunkt der Tempelgemeinden in Palsestina, Stuttgart, Druck und Verlag J.F. Steinkopf, 1875.

ويتضمن هذا الكتاب المبادئ الأساسية لعقيدة الهيكليين بعد الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد). وفيه إيضاحات جيدة لأفكار هوفمان وتطلعاته. ويتضمن الفصل الأول منه عرضاً لتطور جمعية الهيكل وفكرتها الاستعمارية، ومدى صلتها بحركة الأتقياء القديمة، وموقفها من المسائل الكنسية والعلمية والاجتماعية. ويؤكد هوفمان في هذا الفصل أن الهدف الأول للجمعية السعي إلى استعادة ما فقدته الكنيسة من هيمنة روحية على رعاياها، وثقة المثقفين والمؤمنين بها، وتحقيق تعاليم الكتاب المقدس.

أما الفصل الثاني من الكتاب فيدور حول الشرق وحاجاته، مؤكداً على أن على مستقبل الشرق يقوم التجديد الديني للإنسانية. ويبين أن الواجب الديني ينبغي أن يحرّك المسيحيين المؤمنين إلى الهجرة إلى فلسطين، التي لا يمكن مقارنتها بالهجرة إلى أمريكا وأستراليا من وجهة نظر اقتصادية، لأن فلسطين بلد فقير جداً، لا تتوفر فيه المصادر الطبيعية الكافية.

ويتضمن الفصل الثالث من الكتاب موضوع “الغرب ومستقبله”، يتناول فيه هوفمان الوضع الدولي، بصفته سياسياً، منطلقاً من المسألة الدينية التي هي محور تفكيره. يقول في هذا الصدد أن الحزب الوطني الحر،Der Nationalliberden Partei، في المملكة الألمانية (1875) قد أهمل النور القيادي للدين، “لأن مجرى تاريخ العالم تحركه أفكار روحية عميقة”.

ويكرس الفصل الأخير منه للمسألة الشرقية، ويرى استحالة حل هذه المسألة بفن الدبلوماسية، أو باللجوء إلى القوة. أما الحل الذي يقترحه فحملة صليبية سلمية تضمن الاستعمار المسيحي للشرق، وتقديم صورة حية حقيقة للشرقيين عن التدين والأخلاق المقرونين بالعمل، وبخاصة بعد أن اتضح أن التبشير المسيحي بين المسلمين لم ينل احترامهم واهتمامهم.

أما الكتاب الثاني لهوفمان فيتضمن ثلاث رسائل مفتوحة، Sendschreiben، نشرها خلال 1877/1878. وقد أصدرتها مجلة الجمعية في كتاب واحد في شتوتجارت عام 1878 بعنوان: “رسائل مفتوحة عن الهيكل، والأسرار المقدسة، وعقيدة الثالوث، وألوهية المسيح، وأبوّة الله للبشر.

Sendeschreiben Ueber den Tempel und die Sakramente, das Dogma Ueber die Dreieinigkeit und von der Gottheit Christi, Sowie Ueber die Versoehnung der Menschen mit Gott, Stuttgart, Warte des Tempels, 1878.”

تناول هوفمان في هذه الرسائل عقائد الكنيسة بشأن الثالوث الأقدس، وما قبل وجود المسيح، وموت المسيح وعودته. وقد أحدثت الآراء التي نشرها انقساماً في صفوف جماعته. وأنشأت مجموعة منها في يافا جمعية أطلقت عليها اسم “مؤسسة الهيكل، Tempelstift” تولت إدارة المدرسة والمستشفى في مستعمرة يافا.

ونشر هوفمان مقالات عديدة ونشرات كثيرة حول الدراسات التوراتية، والدروس الدينية للشباب. وتمكن من إنجاز كتابة مذكراته التي نشرت بعنوان “طريقي إلى القدس، Mein Weg nach Jerusalem”. ونشر الجزء الأول منها في القدس عام 1881 بعنوان “ذكريات من شبابي، “Erinnerungen aus meiner Jugend ، ونشر الجزء الثاني منها في القدس أيضاً عام 1884 بعنوان “ذكريات سن الرشد، Erinnerungen des Mannesalters”.

ومن الجدير بالذكر أن هوفمان أصدر كتاباً آخر في بداية إقامته في فلسطين بعنوان “أشعار وأغان، Gedicnte und Lieder”، صدر في شتوتجارت عام 1869.

اضطر هوفمان بسبب المرض إلى العودة إلى ألمانيا عام 1881، فتخلى عن رئاسة جمعية الهيكل، وتوفي في 8 كانون الأول 1885.

أما جورج دافيد هارديج، رفيق هوفمان والزعيم الثاني لجمعية الهيكل، فقد شارك في تحرير مجلة الجمعية، Sueddeutsche Warte، منذ أن تعرّف بهوفمان عام 1848. وأصدر كتابين قبل الهجرة إلى فلسطين، هما: “الإنجيل السرمدي، Evangeluum” Das Ewige و”وسائل لحل المسألة الاجتماعية، Mitteln Zur Loesung der Sozialen”، صدرا في شتوتجارت عن دار كارل شولر عام 1866، Frage, Verlag Von Carl Scholer، كما أصدر آخر مؤلفاته عام 1877 بعنوان: “المسألة التركية 

Die Tuerkische Frage Oder die sechste Zornschale von einem Laien, Stuttgart, bei Messler Buchdrucker, 1877.”

وتوفي هارديج في 11 تموز 1879 في حيفا.

المستعمرات الألمانية في فلسطين والعلاقات الألمانية – العثمانية

ينبغي علينا، عند معالجتنا لموقف ألمانيا من المستعمرات الهيكلية في فلسطين، التمييز بين موقفين: موقف الحكومة الألمانية القيصرية، وموقف الرأي العام الألماني.

ففي ظل المنافسة القائمة بين الدول الأوروبية الكبرى على الشرق العربي، كان من المفروض أن تستغلّ الحكومة الألمانية وجود طائفة من مواطنيها في فلسطين لصالحها. غير أن دراستنا للوثائق الموجودة في الأرشيف السياسي لوزارة الخارجية الألمانية أفضت إلى عكس هذا الافتراض؛ فقد اتصف الموقف الرسمي الألماني من هذه المستعمرات بالتحفّظ، لاعتقاد المسؤولين الألمان أن النفوذ الذي يمكن لألمانيا أن تحققه من خلال دعمها لهذه المستعمرات، لا يساوي المصاعب التي قد تواجهها في علاقاتها مع الدولة العثمانية.

غير أن وزارة الخارجية الألمانية كانت عاجزة عن التصرّف، انطلاقاً من الاعتبارات السياسية الصرفة؛ إذ تدخلت عدة عوامل أدت إلى تصرفها، في كثير من الأحيان، بصورة مناقضة لما اعتبرته مناسباً في العلاقات الألمانية – العثمانية. ومن أهم هذه العوامل التي أكرهت برلين على تقديم العون للمستعمرين الألمان في فلسطين، الرأي العام الألماني، والبلاط القيصري، ووزارة خارجية مملكة فورتمبرغ، والبحرية الألمانية.

كان الرأي العام الألماني أكثر هذه العوامل فاعلية: فقد كان المستعمرون الألمان في فلسطين ينشرون تقارير في الصحف الألمانية بصورة متقطعة أحياناً، ومنتظمة أحياناً أخرى عن نشاطاتهم. وكثيراً ما كانت هذه التقارير الصحفية تؤكد عداء السكان العرب والإدارة العثمانية لهم. وكانت الأوساط القومية الألمانية تتجاهل في البداية المبالغة الواردة في هذه التقارير، غير أنها غضبت لتجاهل حكومة برلين للمعاملة القاسية التي زعم المستعمرون أنهم يعاملون بها من طرف السلطة العثمانية. والواقع أن اهتمام أوروبا المتزايد بالأحداث الجارية في فلسطين منذ منتصف القرن السابع عشر، صاحبه زيادة في كمية المعلومات المنشورة في الصحف المحلية عن تلك الأحداث. وقد استغلّ قادة جمعية الهيكل هذا الوضع أحسن استغلال، إذ كانوا خبراء في هذا الميدان الإعلامي.

أما البلاط الملكي ووزارة الخارجية في مملكة فورتمبرغ فقد كانا معاديين، من حيث المبدأ، لنشاطات جمعية الهيكل؛ وذلك لاعتبارات دينية محضة. غير أن هذا الموقف الديني اتّجه إلى الاعتدال بعد انتشار الليبيرالية في أوروبا بوجه عام، وفي ألمانيا بوجه خاص؛ وخفّ، مع الزمن، هجوم الهيكليين في مجلتهم Sueddeutsche Warte على الكنيسة الإنجيلية والسلطة السياسية في فورتمبرغ. وأخذ العديد من أعضاء جمعية الهيكل يعودون إلى حظيرة الكنيسة الإنجيلية، حتى بلغ عدد هؤلاء عام 1874 نحو ثلث أعضائها. وبدلاً من التطرّف الديني، نما شعور جديد في مملكة فورتمبرغ بأن على الوطن الأم واجب حماية أبنائه في ديار الهجرة، وهم يتعرضون لأعمال البروسيين. ولم تعد حكومة شتوتجارت تقتنع بالاعتبارات التي اعتمدت عليها وزارة الخارجية في برلين في تعاملها مع المستعمرين الألمان في فلسطين.

وكانت القوات البحرية الألمانية، المرتبطة مباشرة بالقيصر، ذات نفوذ واسع، وتتلقى باستمرار تقارير من ضباط البوارج الحربية التي كانت تتردد على الموانئ الفلسطينية. ولعل اهتمام القيصر فيلهلم الثاني بالبحرية زاد من أهمية هذه التقارير التي كان يقرأها القيصر نفسه، ويعلق عليها بخط يده. وكان معظم ضباط البحرية الألمان الذين يترددون على فلسطين يميل إلى قبول وجهة نظر المستعمرين الألمان، القائلة بأن برلين لم تبذل الجهد الكافي لحمايتهم.

وعندما طلب أصدقاء القدس، Jerusalem Freunde، من البندستاغ في فرانكفورت أن تتوسط النمسا وبروسيا، العضوان في الاتحاد الألماني، لدى السلطان العثماني للسماح لهم بالاستيطان في فلسطين، رفضت الدولتان هذا الطلب بصورة قطعية، وذهبت النداءات الشخصية الموجهة إلى مندوب بروسيا في الاتحاد، أدراج الرياح.

ولما سافر وفد جمعية الهيكل إلى فلسطين عام 1858 لدراسة إمكانية الاستيطان فيها، طلب من ملك بروسيا، فريدريش فيلهلم الرابع Friedrich Wilhelm IV، الذي كانت تربطه بفلسطين صلات عاطفية دينية، أن يزوّده بعدد من الخبراء الرسميين. وليس هناك ما يدل على استجابة ملك بروسيا لهذا الطلب.

ولما قرر الهيكليون عام 1868 البدء بالاستيطان في فلسطين، طلبوا من جديد المساعدة من ملك بروسيا. وكان فيلهلم هوفمان، شقيق رئيس جمعية الهيكل (كريستوف هوفمان)، يشغل آنذاك أعلى منصب كنسي في برلينGeneral superintend ent، وقسيس البلاط الملكي، وله نفوذ كبير على ملك بروسيا. غير أن الملك طلب من وزارة الخارجية أن تتعرف على موقف حكومة فورتمبرغ من جمعية الهيكل قبل تقديم أية مساعدة لها. وجاء جواب وزير الخارجية في شتوتجارت في 16 أيلول  1868 يقول إن آراء الجمعية ومواقفها المعادية من الكنيسة الإنجيلية تجعلها عنصراً غير مرغوب فيه. كما أن الظروف الصعبة في فلسطين سوف تنهي مشروعها بالفشل. غير أن نفوذ فيلهلم هوفمان تغلب على رأي وزارة الخارجية في شتوتجارت، وصدرت التعليمات إلى الممثلين الدبلوماسيين البروسيين لدى الدولة العثمانية لتقديم العون للهيكليين. فبذلوا جهوداً كبيرة لحماية الهيكليين في حيفا. ولكن الهيكليين لم يرضوا عن تردد بروسيا في دعمهم، وأصيبوا بخيبة أمل كبيرة.

وإذا استثنينا الدعم الذي قدمته برلين للهيكليين أثناء المفاوضات الأولى مع الباب العالي، فإن المستعمرات الألمانية في فلسطين لم تتمكن من إثارة اهتمام حكومتي برلين وشتوتجارت خلال الفترة الواقعة بين عامي 1868 و 1874. أما على صعيد الرأي العام الألماني فقد حظي مشروع الهيكليين منذ بدايته بتأييد الصحافة الوطنية: ففي نهاية عام 1868 نشرت صحيفةAugusburger Allgemeine Zeitung مقالة للبروفسور زيب Sepp، مؤرخ الكنيسة والسياسي الألماني جاء فيها: “أن قيصر ألمانيا الكبير فريدريش بربروسّاFriedrich Barbarossa قد قضى نحبه من أجل امتلاك الأرض المقدسة، وترك للألمان واجب استعادة السيطرة على فلسطين العزيزة على قلب كل مسيحي. ولا بد أن تجد ألمانيا في نهاية المطاف نصيبها من الاستعمار، ومن أجل هذه الغاية ينبغي تشجيع هجرة الألمان إلى فلسطين.

أما موقف السلطات العثمانية الذي كان معارضاً لقيام المستعمرات الألمانية في فلسطين، فقد تغير منذ قيام الوحدة الألمانية عام 1871. فوالي دمشق رشيد باشا، الذي تعرف على نشاط الإنجيليين الألمان في بسرابيا، كان يعطف على الألمان، حتى أنه وعد القنصل الألماني العام في بيروت بمنح الهيكليين قطعة من الأرض في حيفا هدية. وقام هارديج بزيارة الوالي في أثناء وجوده في بيروت، وعرض عليه خطة لاستغلال جبل الكرمل. فما كان من رشيد باشا إلا أن أرسل سكرتيره ليعد تقريراً عن المنطقة المطلوبة في عام 1871. وكانت خطة هارديج تقوم على إنشاء مصح على قمة الكرمل، وربطه بمسبح على شاطئ البحر. ورغم جهود القنصل الألماني فريدريش كيلر، Friedrich Keller، في سبيل تحقيق هذا المشروع، امتنعت الحكومة العثمانية عن إصدار فرمان بإهداء جبل الكرمل للهيكليين.

وحدث تغيير في موقف وزارة الخارجية الألمانية من الهيكليين بعد عام 1875. وكان السبب في ذلك المظاهرات التي قام بها المسلمون في فلسطين في أثناء الحرب البلقانية في ذلك العام. إذ خشي القناصل الأجانب قيام تحرك إسلامي ضد الأجانب في فلسطين، وعلى رأسهم المستعمرون الألمان. وبناء على طلب الهيكليين، وافقت الحكومة الألمانية على إرسال بوارجها الحربية إلى الموانئ الفلسطينية في مظاهرة عسكرية، القصد منها تطمين المستعمرين الألمان. وفي 2 حزيران 1877 أصدر وزير الخارجية الألماني فون بيلوف، Von Buelow. تعليماته إلى السفير الألماني في إسطنبول بالخطوة الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة الألمانية. وجاء في هذه التعليمات: “وافق القيصر على طلب المستشار بسمارك إرسال قواتنا البحرية إلى الشرق، آخذاً بعين الاعتبار الوضع الراهن هناك .. إن الهدف الأول للأسطول ظهور العلم الألماني في الموانئ التركية من أجل حماية رعايانا هناك، ومن أجل التعبير عن اهتمام حكومة القيصر برعاياها في ضوء قلقهم الناشئ عن الحرب … وحماية أرواحهم وممتلكاتهم، بالتدخل الفعال إذا اقتضت الضرورة ذلك”.

وأصدرت وزارة الخارجية في برلين سلسلة من التعليمات إلى سفرائها في أوروبا لإقناع الدول الأوروبية بأن ليست وراء إرسال الأسطول الألماني إلى الموانئ العثمانية أية دوافع سياسية، وأن السبب الوحيد هو الدفاع عن الرعايا الألمان في الشرق. 

أما على الصعيد المحلي في فلسطين، فقد شعر المستعمرون الألمان في شباط 1877، بينما كان مئات الشباب من المسلمين يتجهون إلى يافا وحيفا للسفر إلى سالونيك للمشاركة في القتال، أنهم قد يتعرضون للأذى. وقام وكيل ضابط سابق ألماني بتدريب الشباب الألمان على التمارين العسكرية في مستعمرة سارونا. وطلب هوفمان من القيصر حماية المواطنين الألمان من أي اعتداء محتمل من جانب المسلمين. وفي يوم عيد الفصح من عام 1877 أرسى الطراد الألماني غاتسيله، Gazelle، في ميناء يافا. وكان عليه أربعمئة جندي وثمانية عشر مدفعاً. وكان يقود الطراد الأمير فون هاكه، Graf Von Hacke؛ وجاء هوفمان وممثلون عن الهيكليين إلى ميناء يافا لتقديم شكرهم لقائد الطراد لحماية الحكومة الألمانية لمواطنيها. ولما رد قائد الطراد على زيارة هوفمان ورفاقه بزيارة مستعمرة سارونا، أقام المستعمرون الألمان الاحتفالات الضخمة بهذه المناسبة. وحدث شيء مماثل لذلك عندما زار الطراد نفسه ميناء حيفا في الفترة نفسها. وفي صيف العام نفسه قامت أربع بوارج حربية ألمانية بزيارة الساحل السوري والفلسطيني.

وبدأت بعد هذه المظاهرة العسكرية مرحلة من العلاقات الودية بين الهيكليين والحكومة الألمانية، واستجابت الحكومة الألمانية لطلب الهيكليين بدعم مدارسهم في فلسطين، فقدمت وزارة الخارجية الألمانية مبلغ 3750 ماركاً منحة سنوية لهذه المدارس. وكان هذا المبلغ يعادل ربع الموازنة السنوية لتلك المدارس. ومن الجدير بالذكر أن هذه المنحة هي المعونة المالية الرسمية الوحيدة التي قدمتها الحكومة الألمانية للهيكليين منذ بداية مشروعهم الاستعماري في فلسطين عام 1868 وحتى عام 1918.

وفي عام 1880 سعى الهيكلييون إلى اعتراف الحكومة العثمانية بالتنظيم الإداري المستقل لمستعمراتهم. وأيدهم في هذا المسعى القنصل الألماني العام في القدس مينشهازون، Muenchhausen؛ غير أن مسعاهم باء بالفشل. كما فشلت محاولتهم لدفع وزارة الخارجية الألمانية إلى التوسط لدى الحكومة العثمانية لتوسيع حقوق الأجانب المقيمين في الولايات العثمانية. وحدثت أزمة عنيفة بين الهيكليين والحكومة الألمانية سببها الخدمة العسكرية في ألمانيا: ذلك أن عدداً قليلاً من المستعمرين الألمان قد أتم الخدمة العسكرية الإجبارية في ألمانيا قبل الهجرة إلى فلسطين؛ وكان هؤلاء يتمتعون بالجنسية الألمانية وفقاً للقانون الألماني. أما الذين كانوا دون سن السابعة عشرة عندما غادروا ألمانيا، ولم يعودوا إليها للقيام بالخدمة العسكرية، فقد كان من الصعب منحهم حقوق المواطنة الألمانية. ومن المعروف أن العديد من الألمان وغيرهم قد دخل في حماية القنصليات الألمانية في فلسطين، إمّا بصفتهم مواطنين يتمتعون بحق المواطنة الألمانية، Reichsangehoerige، وإمّا بصفتهم رعايا تحت الحماية، Schutzgenossen. وفي عام 1880 أصدر المستشار الألماني بسمارك تعليمات إلى القناصل الألمان في الدولة العثمانية يطلب فيها رفع الحماية عمن لم يَقضِ الخدمة العسكرية في الجيش الألماني.

ودخلت الأزمة مرحلتها الحرجة إثر وصول خليفة القنصل مينشهاوزن، الدكتور رايتس، Reitz، إلى القدس عام 1881: فقد بدأ يدعو الهيكليين إلى مكتبه واحداً بعد الآخر، ويتهمهم بأن القصد من مشروعهم الاستعماري في فلسطين هو التهرب من الخدمة العسكرية في الجيش الألماني. ولما حاول رايتس أن يرفع الحماية عن بعض الهيكليين، ثار غضب هوفمان زعيمهم، وبعث باحتجاج شديد اللهجة إلى المستشار الألماني. وقال في رسالته الاحتجاجية هذه: إذا كان رايتس يتصرف بناء على تعليمات من وزارة الخارجية، فإن الهيكليين سوف يبحثون عن دولة أخرى للدخول في حمايتها، وربما اضطروا إلى الانتقال إلى بلد آخر. ورجا هوفمان المستشار الألماني أن يعتبر العمل في المستعمرات الألمانية في فلسطين، ولعشرين سنة قادمة، كخدمة عسكرية. وطلب تعديل قانون الخدمة العسكرية الألماني، بحيث يأخذ بعين الاعتبار وضع الهيكليين في فلسطين. فإذا تعذر ذلك طلب هوفمان إبقاء الوضع كما هو عليه حتى عام 1884، ليتمكن الهيكلييون من إيجاد حل آخر.

وجاء رد المستشار الألماني ليؤكد أن تصرفات رايتس مبنية على تعليمات تلقاها من وزارة الخارجية الألمانية، وأنه من المتعذر استثناء الهيكليين في قانون الخدمة العسكرية. ولكنه اعترف بحقهم في التمتع بالحماية القنصلية الألمانية، شريطة أن يطبّق عليهم قانون الخدمة العسكرية اعتباراً من عام 1881. ومنذئذ شرع الهيكليون يرسلون أبناءهم إلى ألمانيا للقيام بالخدمة العسكرية هناك، ومدتها ثلاث سنوات.

وحدث تغيّر مهم في السياسة الألمانية نحو الدولة العثمانية في الثمانينات من القرن التاسع عشر، ففي عام 1880 لبّى المستشار الألماني بسمارك طلب السلطان العثماني بتزويد بلاده بالخبراء الماليين والعسكريين. وبدأت ألمانيا منذئذ الغزو الاقتصادي، Penentration Pacifique، للدولة العثمانية. وأصبح دعم الدولة العثمانية وتقويتها، على أمل أن تكون في يوم ما حليفة لألمانيا، هدفاً مهماً من أهداف السياسة الخارجية الألمانية. واستقدمت الدولة العثمانية العديد من الخبراء العسكريين والإداريين الألمان. وأخذ الشباب العثماني يتردد على المعاهد العسكرية والعلمية الألمانية. وبدأ بنك فلسطين الألماني Deutsche Palaestina Bank نشاطه في القدس، ثم فتح فرعاً له في يافا وآخر في حيفا. وأخذت البواخر الألمانية تتردد بانتظام على الموانئ العثمانية. وتأسست في عام 1889 شركة بواخر الشرق الألمانية، die Deutsche Levante -Linie وبدأت رحلاتها بأربع بواخر، ما لبثت أن زادت عدد بواخرها إلى العشرين في مطلع القرن العشرين. وفي عام 1888 حصلت شركة ألمانية على امتياز مدّ سكة حديد الأناضول.

وفي العام نفسه اعتلى عرش ألمانيا القيصر فيلهلم الثاني. وبعد عام من ذلك قرر أن تكون أول زيارة له خارج ألمانيا إلى السلطان العثماني. وقد أعجب القيصر بآراء السفير الألماني في إسطنبول، البارون هاتسفيلد،Baron Hatzfeld، (1879-1881) بشأن التعاون الألماني- العثماني. فقد رأى هاتسفيلد أن فرنسا تمتعت بوضع متفوق في الدولة العثمانية حتى حملة نابليون على مصر عام 1798، وأن إنجلترا، التي حاولت الحلول محل فرنسا، قد أثارت شكوك الأتراك بها بعد أن ضمّت قبرص إليها عام 1878، واحتلت مصر عام 1882. وينتهي السفير الألماني السابق إلى القول: إن فراغاً قد وجد نتيجة لذلك، ولا بد لقوّة أوروبية من ملئه، وإن ألمانيا هي الدولة المؤهلة لملء هذا الفراغ.

في نطاق الانفتاح العثماني على ألمانيا، ورغبة هذه الأخيرة في توسيع علاقاتها مع الدولة العثمانية، لم يكن للهيكليين إلا أثر ضئيل جداً في هذا المجال؛ إذ حرصت برلين على إزالة مخاوف العثمانيين من تجميع الأجانب على أراضيهم، كما أن فلسطين تقع خارج نطاق المصالح الألمانية التي تركزت على طول سكة حديد بغداد.

لقد دار جدل طويل في أوساط وزارة الخارجية الألمانية حول موقف الحكومة الألمانية من الاستيطان الألماني في الدولة العثمانية على ضوء التطورات الجديدة. ففي عام 1891 طلب خليفة بسمارك، المستشار كابريفي، Caprivi، من وزارة الخارجية إبداء رأيها في اقتراح تقدم به السلطان العثماني إلى القيصر فيلهلم الثاني، يتضمن إنشاء مستعمرات ألمانية على طول سكة حديد بغداد. وكانت أول مذكرة من وزارة الخارجية تناولت هذا الاقتراح قدّمها الهر كيدرلين، Kiderlen، من الدائرة السياسية في الوزارة. وقد بنى كيدرلين تحليله على تجربة الهيكليين في فلسطين. وجاء في مذكرته هذه:

“إن المستعمرات الألمانية في فلسطين لا تقدم لنا مثالاً مشجعاً. فالمستعمرون يكسبون قوتهم بصعوبة، ويتعرضون لعداء السكان المحليين والسلطات التركية. وإذا كان المستعمرون المقترح توطينهم في آسيا الصغرى من الألمان، فسيواجه قناصلنا التذمر الدائم من السلطات المحلية، كما ستواجه سفارتنا تدخل الباب العالي المستمر. وهذا أمر لا بد من أخذه في الحسبان. وقد يدمّر علاقاتنا الطيبة مع الأتراك بدلاً من أن ينميها. والمستعمرات في فلسطين خير مثال على ذلك”.

وقدم مدير الدائرة الاستعمارية في وزارة الخارجية الهر كايزر، Kayser، مذكرة مماثلة للمذكرة السابقة. يتبين لنا من هاتين المذكرتين أن وزارة الخارجية الألمانية كانت ترى في مستعمرات الهيكليين في فلسطين مثالاً سيئاً، وسبباً دائماً لتهديد العلاقات الألمانية – العثمانية بالتدهور. والواقع أن شكاوى الهيكليين أثارت غضب السلطات العثمانية؛ كما أن وجود المستعمرات الألمانية في فلسطين أثار حفيظة الدول الأوروبية ضد ألمانيا. ولم تكن فلسطين، بإمكانياتها المحدودة، البلد القادر على تلبية احتياجات ألمانيا: فلا هي مصدر مهمّ للمواد الأولية، ولا هي سوق واسعة قادرة على استيعاب منتجات ألمانيا. ولذلك لم يكن فيها ما يستحق اهتمام ألمانيا الحقيقي في هذه الفترة.

ولعل أبرز الأحداث السياسية التي شهدتها فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر، زيارة القيصر الألماني فيلهلم الثاني، في تشرين الأول عام 1898؛ وهي زيارته الثانية للشرق. وكان الغرض المعلن من هذه الزيارة الحج إلى الأماكن المقدسة: ففي 25 تشرين الأول من ذلك العام، أرست ثلاث بوارج ألمانية تُقِلّ القيصر وحاشيته في ميناء حيفا. وفي صباح اليوم التالي تجمّع كافة أفراد المستعمرة الألمانية في حيفا في باحة القنصلية الألمانية من أجل تحية القيصر. وقام فريدريش لانجه، Freidrich Lange، رئيس الجماعة الهيكلية في حيفا (ومؤرخ الجمعية)، بإلقاء كلمة في حضرة القيصر، شكره فيها على الدعم والمؤازرة التي يلقاها الهيكليون من القيصر، وبخاصة في ميدان التعليم. وأكّد على ضرورة توثيق الصلات بين الهيكليين والوطن الأم. وردّ القيصر عليه بالإعراب عن سعادته إذ يرى في قلب الأرض المقدسة مستعمرة ألمانية لها علاقات وثيقة بالوطن الأم، وقال بأنه سوف ينقل إلى ملك فورتمبرغ ما حققه مواطنوه من إنجازات؛ وأكد حمايته لكافة الألمان. كما ألقى الدكتور شوماخر،Dr, G. Schumacher، ابن أحد قادة الجمعية، كلمة في حضرة القيصر أشار فيها إلى قيمة الأبحاث العلمية الألمانية عن فلسطين وأحوالها. وتجوّل القيصر في المستعمرة، ثم اتجه إلى يافا ومنها إلى القدس. وخلال سفره الذي استغرق يومين، زار القيصر مستعمرات يافا وسارونا وريفايم، حيث استقبل استقبالاً حافلاً.

وفي أثناء هذه الزيارة أصبحت فلسطين والمستوطنون الألمان فيها موضوع الساعة في ألمانيا. وتأسست في شتوتجارت في تشرين الأول 1899 “جمعية تطوير الاستيطان الألماني في فلسطين”Gesellschaft Zur Foerderung der deutschen Ansiedlungen in Palaestina”  تحت رعاية البارون فون ايليريكسها وزن، Freiherr Von Ellerichshausen، من أجل تزويد الجمعية بالتبرعات المالية لتوسيع نشاطها وشراء المزيد من الأرض. وتولى إدارة الجمعية الأمير فون أوراخ، K. Von Urach، بينما تولى رئاستها الفخرية النائب العام في المملكة الدكتور فون روب، Von Rupp؛ وتمكنت هذه الجمعية من جمع مبلغ ثلاثمئة ألف مارك، حوّلت إلى جمعية الهيكل، فاشترت به قطعة من الأرض مساحتها ثمانية كيلومترات مربعة بالقرب من اللد، غير بعيد عن سكة حديد يافا – القدس. وأنشأت عليها مستعمرة فيلهلما Wilhelma.

وإذا كانت زيارة القيصر لفلسطين قد بعثت الحماس في نفوس سكان مملكة فورتمبرغ، فأنشأوا جمعية تطوير الاستيطان الألماني في فلسطين، فلم يتجاوز دعم القيصر للهيكليين إعجابه بمنجزاتهم، وتعاطفه معهم، ووعده لهم بأن يسعى لدى السلطات العثمانية لِتُعامِلَهم المعاملة التي يستحقونها. وإذا عدنا إلى وثائق الأرشيف السياسي لوزارة الخارجية الألمانية لمعرفة نتائج زيارة القيصر هذه، لم نجد فيها ذكراً أو إشارة للمستعمرات الألمانية في فلسطين: فقد لخّص نتائج هذه الزيارة القائم بالأعمال الألماني في إسطنبول في تقرير بعث به إلى وزارة الخارجية، ووُزّعت نسخ من هذا التقرير، بناء على أوامر القيصر، إلى كافة السفارات الألمانية في العالم؛ وقد ورد في هذا التقرير أن الدافع الأول لزيارة فلسطين هو دافع ديني. ولم ترد فيه أية إشارة للمستعمرات الألمانية فيها. والواقع أن زيارة القيصر لفلسطين لم تُحْدِث أي تغيير في السياسة الألمانية الرسمية نحو المستعمرات الهيكلية؛ غير أن فلسطين بقيت منذئذ موضوع اهتمام الرأي العام الألماني؛ فقد أثار الوصف الحماسي للمستعمرات موجة من التعاطف الشعبي، ساعدت المستعمرين على التغلّب على المصاعب التي واجهوها، وبناء ثلاث مستعمرات جديدة. غير أن الأموال اللازمة لبناء هذه المستعمرات جُمعت من مواطني مملكة فورتمبرغ وحدها. وذهبت جهود جمعية تطوير الاستيطان الألماني في فلسطين من أجل الحصول على تعاون القيصر الألماني لشراء الأسهم في المؤسسة المالية التي أنشأتها، سدى. هذا وقد لقيت الجمعية المذكورة اهتماماً خاصاً في مملكة فورتمبرغ: ففي عام 1910 طلب وزير خارجية المملكة من ممثلها في برلين أن يتوسط لدى وزارة الخارجية الاتحادية لتضغط على الدويتش بانك، Deutsche Bank، لمنح جمعية الهيكل قرضاً مقداره مئة ألف مارك، للحفاظ على الطابع الألماني لمستعمرة سارونا، وتطوير مستعمرتي فيلهلما وبيت لحم في الجليل. وبينما كانت المساعي جارية للحصول على القرض المطلوب، أنفقت حكومة برلين مبلغاً يساوي عشرين ضعف هذا المبلغ على مؤسسة القيصرة أوغستا فكتوريا، Kaiserin Auguste Victoria Stiftung، في القدس التي أنشئت تخليداً لزيارة زوجة القيصر للمدينة المقدسة.

ومع مَدّ سكة حديد الحجاز، وقيام الفرنسيين بمد السكك الحديدية في فلسطين، ازداد قلق الهيكليين، وشعروا أن البلاد تكاد تقع تحت النفوذ الفرنسي. وفي صيف عام 1913 قام وفد من جمعية الهيكل في فلسطين، مؤلف من رئيسها كريستيان روهرر، Christian Rohrer، وغوتليب شوماخر،Gottilieb Schumacher، بزيارة شتوتجارت وبرلين للسعي لدى حكومة فورتمبرغ وحكومة برلين الاتحادية لتجنّب وقوع فلسطين في منطقة النفوذ الفرنسي. وفي آب 1913، قدّم الوفد مذكرة إلى فون روزنبرغ، Von Rosenberg، مدير الدائرة الشرقية في وزارة الخارجية في برلين؛ وسأل شوماخر المسؤول الألماني عن مصير المستعمرات الألمانية في حالة قبول ألمانيا بوقوع فلسطين تحت الهيمنة الفرنسية. وتضمنت مذكرة الوفد الهيكلي إشادة بدور المستعمرين الألمان في تطوير فلسطين، ورفع سمعة ألمانيا. كما اقترحت إيجاد حلّ لمستقبل فلسطين تقبل به الدول الكبرى، وذلك بأسرع وقت ممكن، وقبل أن يفوت الأوان. واقترح شوماخر في هذا الصدد وضع فلسطين (من الحدود المصرية إلى رأس الناقورة شمالاً، وحتى سفوح جبل الشيخ شرقاً) تحت حكم أمير أوروبي. وبَرّر اقتراحه هذا بأنه لا يتعارض والمصالح البريطانية والروسية في المنطقة. واقترح بالمقابل منح فرنسا المنطقة الواقعة شمال فلسطين، دون الإضرار بمصالح الدول الكبرى فيها.

وسعى الوفد لدى وزارة خارجية مملكة فورتمبرغ لقبول مقترحاته السابقة الذكر، فأيّدتها، وطلبت من ممثلها في برلين أن يجسّ نبض وزارة الخارجية الاتحادية. فجاء الرد: إن سورية لا تقع في منطقة اهتمام ألمانيا، لأنها بعيدة عن سكة حديد بغداد. وهكذا خابت آمال الوفد الهيكلي من موقف حكومة برلين، وعاد إلى فلسطين خالي الوفاض. وجاءت الاتفاقية الفرنسية – الألمانية لعام 1914 لتؤكد اعتراف ألمانيا بوضع فرنسا الخاص في فلسطين، وبخاصة في موضوع بناء السكك الحديدية.

غير أن فكرة فصل فلسطين عن الدولة العثمانية ووضعها تحت الهيمنة الأوروبية، لم تغب عن ذهن بعض المسؤولين الألمان: فقد اقترح السفير الألماني في إسطنبول، في رسالة بعث بها إلى المستشار الألماني الأمير فون هيرتلنغ، Graf Von Hertling، إنشاء مملكة في فلسطين لحل مسألة الأماكن المقدسة، معتقداً بأن هذا الحل سوف يرضي المسيحيين واليهود في العالم، شريطة إيجاد حلّ مُرضٍ للأماكن المقدسة الإسلامية في القدس. وكان القنصل الألماني العام في القدس الدكتور بروده، Brode، قد اقترح على السفير الألماني في إسطنبول إقامة مملكة صغيرة في القدس تضمّ بيت لحم جنوباً، وتمتد إلى نهر الأردن والبحر الميت شرقاً، وإلى قرية رام الله شمالاً، وأن يعتلي عرشها أمير كاثوليكي ألماني؛ شريطة أن تبقى هذه المملكة تحت السيادة العثمانية الاسمية، وأن تدفع للخزينة العثمانية مليون جنيه إسترليني، وأن يَحتَفظ المسلمون والمسيحيون واليهود بأماكنهم المقدسة فيها. واقترح بروده أيضاً أن تسعى الحكومة الألمانية لدى الباب العالي للتوسع في الاستعمار اليهودي في فلسطين، ومنح اليهود حكماً ذاتياً في البلاد. والواقع أن هذه المقترحات قد جاءت في فترةٍ بَلَغَ النشاط الصهيوني في ألمانيا أوجه من أجل الحصول على وعد رسمي من الحكومة الألمانية مماثل لتصريح بلفور.

يتضح مما سبق أن الحكومة الألمانية لم تَسْعَ إلى تحقيق أية مطالب علنية أو سرية في فلسطين، منذ قيام الرايخ الألماني عام 1871 وحتى نهاية الحكم العثماني عام 1918؛ كما أنها لم تستغلّ عنصر المستعمرين الألمان لأغراضها السياسية في البلاد.

علاقات المستعمرين الألمان بالسكان العرب

اتَّسَمت العلاقات بين المستعمرين الألمان والسكان العرب في فلسطين بالشك والريبة والحذر. لقد أدرك كريستوف هوفمان في أثناء رحلته الاستطلاعية إلى فلسطين عام 1858، أن مشروعه لن يحظى بتأييد السلطات العثمانية فحسب، وإنما سيواجه مقاومة حقيقية من جانب السكان العرب، الذين يشكل المسلمون أكثر من 90% منهم.

ولما بدأ استيطان الهيكليين في فلسطين، كانوا يحملون أفكاراً واضحة عن العداء العربي لهم. وساهمت أحداث فلسطين في تشدد كل فريق في موقفه. وأدرك العرب أن الهيكليين الألمان ليسوا كبقية المقيمين الأجانب في فلسطين؛ فمشروعهم ليس خيرياً كمشاريع الإرساليات التبشيرية المنتشرة في البلاد. واكتشفوا أيضاً أن الألمان قد جاؤوا إلى البلاد تاركين أوطانهم بهدف واحد، هو الاستيلاء على أراضيهم وامتصاص دمائهم. ولذلك كان من المتعذّر على مشروع الاستيطان الألماني أن يكسب قلوبهم. وخلافاً لما كان يعتقده أو يزعمه الألمان، لم تساهم إنجازاتهم في فلسطين إلا في بعث كراهية العرب لهم. ونظر الألمان، بالمقابل، إلى العرب نظرة استعلاء وتفوّق، فزادت من توتر العلاقات بين الفريقين. وكان قادة جمعية الهيكل يخشون الاختلاط بالسكان العرب والذوبان في المجتمع المحلي؛ فهم “شعب الله” المكلف ببناء مملكة الرب في القدس. لذلك تحاملوا على العرب دوماً، وبرروا هذا التحامل في المقالات التي كانوا ينشرونها في مجلتهم Sueddeutsche Warte: فالشرقي في نظرهم “وقح متعجرف بالطبيعة، يمارس السرقة والاستجداء، ولا يحني هامته إلا للقوة والمال”.

وكان قادة الجمعية يحذّرون أعضاءها من التزاوج مع العرب. واستغلوا حالة زواج فاشلة بين فتاة ألمانية وشاب مسيحي عربي في دعايتهم هذه. وكانوا يقولون: “من الأفضل للألمانيات أن يبقين عوانس من أن يلقين بأنفسهن في أحضان الرعاع”.

ولم يُخْفِ كريستوف باولوس، الذي خلف هوفمان في رئاسة جمعية الهيكل بين عامي 1884 و1890، والذي كان من أتباع الفلسفة الإنسانية، احتقاره للعرب. وحينما تكونت شركة للنقل بين يافا والقدس من الألمان والعرب واليهود عام 1884، وأوكل تنظيمها إلى الألمان، كتب باولوس بهذا الصدد يقول: “تعتبر هذه الاتفاقية نصراً للأمانة الألمانية على دسائس العرب واليهود القذرة. لقد أمكن قيام الشركة لأن إدارتها والإشراف على ماليتها قد أوكلا إلى الألمان، الذين تعترف كافة الأطراف بأمانتهم ومثابرتهم على العمل. دعنا نأمل أن يكون لهذا الإنجاز الذي حققته النزاهة الألمانية، تأثير إيجابي على السكان المحليين. ويمكن اعتبار هذا العمل الأنموذجي عملاً تبشيرياً، لأن الهيكليين يؤمنون بأن على الشعب الذي يتوجه إليه المبشرون، أن يتحول إلى كائنات بشرية قبل أن ينظر في أمر تنصيره”.

إزاء هذه النظرة الاستعلائية العِرْقية، لا عجب إذا عجز الهيكليون عن الوصول إلى قلوب العرب، وإقامة علاقات طيبة معهم. وقد اعترف بهذا الوضع السفير الألماني في إسطنبول، مارشال فون بيبرشتاين،Marschall Von Bieberstein، في رسالته التي بعث بها إلى المستشار الألماني فون بيلوف، Von Buelow، والمؤرخة في 8 أيار 1909، والتي اقتبس فيها أقوال نائب القنصل الألماني في حيفا.

ورغم حالة الشك والحذر والكراهية التي سادت العلاقات بين المستعمرين الهيكليين والعرب في فلسطين، لم تحدث خلال الحكم العثماني سوى حادثة قتل واحدة، ذهب ضحيتها أحد هؤلاء الألمان، وبسبب استفزازي. وكان سبب الحادثة التي تمت عام 1910، مقتل أحد فلاحي قرية الطيرة (قرب حيفا) على يد أحد الألمان من مستعمرة حيفا، في أثناء إقدام الأول على السرقة من المزرعة الألمانية. وثأر أهل القتيل لقتيلهم، وهاجموا في اليوم التالي للحادث أحد الألمان، واسمه فريتس أونجر، Fritz Unger، في مستعمرة نويهاردتهوف وأردوه قتيلاً.

وخشي المستعمرون الألمان اعتداء المسلمين عليهم في أثناء الحرب البلقانية (1875-1878)، وطلبوا الحماية من حكومتهم؛ فرأت هذه أن تبعث ببوارج حربية إلى الشواطئ الفلسطينية. فكانت خطوة لا سابقة لها.

وشعر المستعمرون الألمان بضيق شديد عندما أخذ العرب ينافسونهم في الميدان الاقتصادي؛ فقد حل العرب محل الناقلين الألمان بالشاحنات على طريق حيفا – عكا، كما ألحقوا أضراراً كبيرة بشركة السفريات الألمانية على طريق يافا – القدس، بتخفيض أجور السفر. وواجه الحِرَفيون الألمان منافسة مماثلة من العرب. وزاد من كراهية العرب للمستعمرين الألمان واليهود حماية الدول الأوروبية الكبرى لهم. ولم يشعر العرب في يوم من الأيام بأن وجود المستوطنين الألمان أو غيرهم فيه أية فائدة لهم.

علاقة المستعمرين الألمان بالطائفة اليهودية

اتخذت جمعية الهيكل موقفاً عدائياً من اليهود واليهودية قبل استيطان أفرادها في فلسطين، لاعتبارات دينية محضة. غير أن هذا الموقف تبدل بعد استيطان الهيكليين في فلسطين، ولم يترددوا في التعاون مع المهاجرين اليهود والمستعمرات اليهودية لمواجهة المجتمع العربي المناهض لهم. وأخذ هذا الموقف يتغير مع قدوم آلاف اليهود من شرق أوروبا في منتصف الثمانينات من القرن التاسع عشر، وذلك بسبب منافسة المستعمرين اليهود الجدد لهم في الميادين الاقتصادية.

فقد كان هوفمان، مؤسس جمعية الهيكل، يعتقد أن الأرض المقدسة ينبغي أن تكون ملكاً لشعب الله، وأن الله كان ينوي في البداية منح هذه البلاد للشعب اليهودي، غير أن هذا الشعب غرق في الفساد والرذيلة، ولم يعد شعباً مقدساً. الهيكليون وحدهم هم الذين أوجدوا الشعب المقدس الجديد “شعب الله”. وتأكد هذا الاعتقاد لدى هوفمان عند زيارته لفلسطين عام 1858، ورأى “حالة اليهود السيئة، وكسلهم وعجزهم عن تخليص البلاد من حالتها المتدهورة”. ووجد الألمان في بداية استيطانهم مبرراً للتفاهم مع الأقلية اليهودية، للتخلص من العزلة التي يعيشونها.

أما بالنسبة إلى اليهود، فقد حاول زعماء هواة صهيون “حوفيفي تسيون” الاستفادة من تجربة المستوطنين الألمان في المستعمرات الزراعية؛ وكانوا يترددون عليهم محاولين تجنب الأخطاء التي وقعوا فيها. وحينما بدأت الهجرة اليهودية المنظمة الأولى (1882-1904) التي تألفت من موجتين كبيرتين هما: الأولى (1882-1884)، والثانية (1890-1891)، بدأ موقف المستوطنين الألمان يتغير. وكانت المنافسة الاقتصادية وراء هذا الموقف المعادي. صحيح أن نوعية الإنتاج اليهودي من الحِرَف والصناعات الخفيفة كانت أدنى من نوعية الإنتاج الألماني، إلا أن انخفاض أسعار الإنتاج اليهودي جعل من الحِرَفيين والصناع اليهود منافسين خطرين للألمان.

وشعر المستعمرون الألمان بالخطر الحقيقي حينما طلب ثيودور هرتسل، Theodor Herzl، في آب 1897 من أعضاء المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في مدينة بازل السويسرية، الموافقة على برنامج الحركة الصهيونية. ومنذ أن صدرت صحيفة “العالم، Die Welt” الناطقة بلسان الحركة الصهيونية في حزيران 1897، شعر الهيكليون أنهم يواجهون حركة سياسية يهودية منظمة، تؤكد صحيفتها كل يوم على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.

ومنذ مطلع عام 1908 شنّت صحيفة الهيكليين Sueddeutsche Warte هجومها على الحركة الصهيونية، وعلى مختلف أوجه نشاطاتها. وكان يقود هذه الحملة فريتس لورخ، Fritz Lorch، أحد الألمان المولودين في فلسطين، والذي انتقل إلى شتوتجارت ليعمل في صحيفة الجمعية. وقد أبرز لورخ عدم ولاء الصهاينة للدولة العثمانية وتعاونهم مع بريطانيا من أجل تمزيق أشلائها. أما الصهاينة فقد حاولوا التقرب من المستوطنين الألمان والتفاهم معهم، حرصاً منهم على تجنّب الصدام مع الإمبراطورية الألمانية الناشئة. وامتنعت صحيفة “دي فيلت” الصهيونية عن الرد على حملة لورخ الإعلامية.

وبمناسبة انتقال صحيفة الهيكليين Sueddeutsche Warte من شتوتجارت إلى القدس في كانون الثاني عام 1912، نشرت صحيفة “دي فيلت” مقالاً مطولاً طالبت فيه المستوطنين الألمان أن يبدوا مزيداً من التفهم نحو المصالح المشتركة لليهود والألمان. وأكد المقال على الفوائد التي يجنيها المستوطنون الألمان والإمبراطورية الألمانية من المهاجرين اليهود، الناطقين باللغة الألمانية، والذين يفضّلون إقامة علاقات تجارية مع ألمانيا.

ومن الجدير بالذكر أن ألمانيا، في هذه الفترة، كانت مقرّاً لمعظم المؤسسات والمراكز التابعة للحركة الصهيونية. وانساق المستوطنون الألمان وراء سياسة ألمانيا الرسمية منذ عام 1913؛ تلك السياسة التي كانت تحبذ الاستفادة من الوجود اليهودي في فلسطين من أجل تنمية المصالح الألمانية فيها. وشهدت العلاقات بين الأقلّيتين: الألمانية واليهودية، تحسناً ملحوظاً عشية قيام الحرب العالمية الأولى. غير أن هذا التحسن في العلاقات كان مؤقتاً ولفترة قصيرة جداً.

صدر هذا البحث في آب 1980

Loading

اترك تعليقاً