الهجرة البوسنية إلى قيسارية في فلسطين

بُلدان ومدن لا توجد تعليقات

بعد الاحتلال النمساوي الهنغاري للبوسنة والهرسك عام 1878، هاجرت مجموعة من مسلمي البوسنة والهرسك إلى الدولة العثمانية. من ضمن المناطق التي هاجر إليها البوسنيون كانت فلسطين. قامت السلطات العثمانية في ذلك الوقت بتأسيس قرية لهذه المجموعة في قيسارية، على الساحل الفلسطيني للبحر الأبيض المتوسط. ينحدر البوسنيون من العرق السلافي وقد دخلوا الإسلام عن عقيدة وإيمان إبان الفتوحات العثمانية في أوروبا، وقد سمّي البوسنيون في العالم العربي بالبُشناق.

ستبحث هذه المقالة هجرة هذه المجموعة من مسلمي البوسنة والهرسك، وإنشاء قريتهم في فلسطين، وكيف حافظوا على هويتهم العرقية أثناء التكيف مع البيئة الجديدة.

البيانات المقدمة في هذه الدراسة تم جمعها بشكل أساسي من المقابلات التي أجريت بين عامي 1977 و 1979 في عمان وبيروت ودمشق وبلغراد وسراييفو وموستار مع الأفراد الذين ولدوا وعاشوا في فلسطين قبل الحرب العربية الصهيونية 1948- 1949 والذين هاجر أسلافهم من الهرسك إلى قيسارية. كما أجريت مقابلات مع نساء وُلدن في يوغسلافيا بين الحربين العالميتين وتزوجنَ من أحفاد هؤلاء المهاجرين، وكانت عائلاتهن بالفعل جيران في الأجيال السابقة؛ وكان بعض هؤلاء الأفراد من عائلة تعود لاحقًا إلى يوغوسلافيا. وقد تمت مقابلات أخرى مع أولئك الذين هاجر أقاربهم إلى فلسطين ولكن لم يقطعوا العلاقات مع العائلة في “البلد الأم”. علاوة على ذلك ، أجريت محادثات مع العديد من العلماء والمؤرخين وعلماء الاجتماع والاقتصاديين ، بما في ذلك خبراء في اليهودية من العالم العربي والبوسنة والهرسك ا الذين درسوا أحداث وتسويات تاريخية لهذه المناطق في الحقبة العثمانية. تم توفير معلومات مفيدة أيضًا من قبل دبلوماسيين ، وتجار ، وممثلين آخرين لجمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية سابقاً الذين عملوا على مر السنين في فلسطين المحتلة وأماكن أخرى في الشرق الأوسط الذين التقوا شخصياً بمهاجرين من الهرسك وأصبحوا على دراية بتاريخهم وأحوالهم.

الأسباب الرئيسية للهجرة من البوسنة والهرسك بعد عام 1878

أدى التدهور العسكري والسياسي للدولة العثمانية إلى تقليص تدريجي لأراضيها، فضلاً عن انسحاب السكان العثمانيين والسكان “المسلمين” محليًا إلى المناطق التي ظلت تحت السلطة العليا للدولة خوفاً من البطش. فهاجروا إلى شبه جزيرة البلقان وأماكن أخرى، أعقبت كل حلقة من تراجع العثمانيين موجات من الهجرة الإسلامية. استمرت موجة الهجرة هذه، المعروفة باسم “المهاجر – Muhacir” ، طوال فترة الانسحاب العثماني.

لم تكن هجرة المسلمين من البوسنة والهرسك جديدة، فحتى عندما كانت لا تزال تحت الحكم العثماني، كان هناك هجرات فردية للعمل أو التجارة أو البحث عن حياة أفضل. لكن بعد الاحتلال النمساوي المجري شهدت البوسنة والهرسك أعدادًا كبيرة جدًا من الهجرة بين مسلمي البوسنة والهرسك. لم يكن الكثيرون راضين عن الوضع العام والصعوبات والشكوك المتعلقة بفرص الحياة ولهذا لم يكن لهم أي خيار سوى الهجرة. هاجر الصرب والمسلمون والكروات واليهود من البوسنة والهرسك، لكن المسلمين كانوا الأكثر عدداً.

على الرغم من أن هجرة المسلمين كانت موضع اهتمام دائم للحكام النمساويين والهنغاريين في البوسنة والهرسك، إلا أن هذه الحركات استمرت وازدادت بالفعل بسبب أحداث وعوامل عززت شعور الناس بعدم اليقين أو حتى اليأس بسبب ظروفهم المعيشية الصعبة. على الرغم من أن السلطات لم تحتفظ بسجلات عن الهجرة بين عامي 1878 و 1883، فمن المفترض أن أكبر عدد من المسلمين غادروا في هذه السنوات الأولى من الاحتلال. تم تحفيز موجة إضافية من الهجرة من خلال إدخال قانون جديد للدفاع الإقليمي الذي سهل عمليات التنصير والاضطهاد للمسلمين، ولم يرضخ المسلمون في البوسنة لهذه الممارسات الوحشية بل ثاروا على الحكم النمساوي عام (1900) بزعامة (علي فهمي جابيج)، وكذلك بعد الضم النمساوي المجري للبوسنة والهرسك في عام 1908. وفقًا لبعض التقارير، كانت هذه الهجرة الأخيره هي الأوسع من بين جميع موجات الهجرة من البوسنة والهرسك تحت الحكم المجري النمساوي. توقفت الهجرات الكبرى إلى الدولة العثمانية بعد حروب البلقان 1912–13. جاءت الموجة الرئيسية التالية بعد عام 1919 ، مع ظهور الوضع التاريخي والسياسي الجديد في شبه جزيرة البلقان، عندما غادرت أيضًا أعداد كبيرة من الأتراك والمسلمين الذين يتحدثون اللغة الصربية الكرواتية من الأراضي المحررة التي انضمت إلى دولة يوغوسلافيا التي تم إنشاؤها بعد ذلك. هاجر بعض السكان أيضًا إلى تركيا بعد الحرب العالمية الثانية.

سياسة التوطين العثمانية لمهاجري البوسنة والهرسك

مدفوعةً بالاحتلال النمساوي المجري، قررت مجموعة من حوالي مائة عائلة مسلمة بوسنية، مرتبطة بعلاقات القرابة والصداقة، الهجرة إلى الأراضي العثمانية. كان هؤلاء المهاجرون من سكان الحَضر والريف على حدٍ سواء، ينحدرون بشكل رئيسي من موستار وأماكن أخرى في الهرسك مثل تريبينيي وستولاك وشابلينا.

قامت السلطات العثمانية في ذلك الوقت بتوطين هذه المجموعة بالقرب من حيفا، على الساحل الفلسطيني للبحر الأبيض المتوسط، حيث قامت ببناء قرية فوق موقع بلدة قيسارية القديمة. وقد عاشوا هناك حتى إنشاء دولة إسرائيل في عام 1948، وعندها تم تهجيرهم بالقوة إلى الدول العربية المجاورة ومُسحت قريتهم عن الوجود كالكثير من المدن والقرى الفلسطينية.هؤلاء البشناق يشكلون عددًا لا بأس به من المهجرين في الدول العربية.

ولكن بعد قرن من العيش المشترك في هذا الجزء من العالم، لم يعد للبشناق أي سمات مميزة تسمح لهم بتعريف أنفسهم كمجموعة عرقية منفصلة، حيث انصهروا بالكامل في الوسط الثقافي العربي.

عاش المهاجرون البشناق في الولايات العثمانية المكترامكية حيث أنهم لم يخططوا للإستيطان في مكانٍ واحد وبما أنهم مسلمون فهجرتهم واستقرارهم سهل ومرحب به، وقد سكن قسم من البشناق في اسطنبول والأناضول (آسيا الصغرى، كما انتشروا في مناطق عديدة في الولايات العربية.

من الصعب معرفة سياسة الدولة العثمانية اتجاه توطين البشناق حيث أنه لم يتبين من خلال الوثائق أي سياسة معينة في هذا المجال، لكن لربما كان أكبر دافع لاختيار المكان هو التسهيلات من الدولة. حيث حددت السلطات العثمانية أماكن إرسال المهاجرين البشناق وفقاً لمعطيات إثنية واستراتيجية واقتصادية، لربما تم التغاضي في بعض الأحيان عن رغبة المهاجرين في أماكن الاستقرار.

أولاً وقبل كل شيء كانت الحاجة إلى تعبئة الدولة داخليًا من المهاجرين لزيادة أعداد المسلمين داخل حدود الدولة، التي فقدت الكثير من سكانها المسلمين نتيجة الاعتداءات المتكررة عليها. عاش المهاجرون في جميع الولايات العثمانية لكن عملية إعادة التوطين لم تتم بطريقة موحدة. وبما أن منطقة فلسطين كانت قليلة السكان خلال القرن التاسع عشر، يبدو جلياً أن هذا كان أحد أسباب توطين مسلمي البوسنة فيها.

في هذه الأثناء ، كانت الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تسمى في الغرب “بالرجل المريض” في حالة ضعف ووهان بسبب الانتفاضات في الولايات العثمانية التي سببتها إيقاظ القوميات والتي سببت حركات التحرر الأوسع على الحكم العثماني، فضلاً عن الاختراق الاقتصادي والثقافي من الغرب، الذي اشتد بعد مؤتمر برلين في العام 1878. في ضوء هذه العوامل يمكن للمرء أن يفترض أن السلطات العثمانية انخرطت في نوع من “الاستيفاء الديموغرافي”، ولهذا وطّنت سكان في مناطق حدودية متفرقة غير آمنة ومعادية من الموالين الأشداء للدولة ولهذا، جيء بالشركس – “الحراس” التقليديين للسلطان العثماني – والمسلمون من المغرب العربي كالجزائر إلى فلسطين بعد عام 1878 ، بالإضافة إلى مجموعة تضم حوالي مائة عائلة من الهرسك.

الهجرة

عشية احتلال البوسنة والهرسك من قبل النمسا وبلغاريا في العام 1878، أرسلت العديد من عائلات موستار البارزة – بما في ذلك عشائر ستوباز وتشوهاج وحاجي ياهيج و رضوانبيجوفيتش ولاكيزيتش ودراتشي – ممثلين إلى الأسيتانة (إسطنبول) مهمتهم طلب الإذن بالانتقال إلى الأراضي العثمانية.

بعد أن حصلوا على الموافقة العثمانية، قام ممثلو عائلات لاكيزيتش ورضوانبيجوفيتش وتشوهاج بالاستعدادات للهجرة. استغرقت هذه الترتيبات حوالي ستة أشهر، اجتمع خلالها المهاجرون معًا. لم تقم سلطات الاحتلال النمساوي الهنغاري بالتدخل في هذه الهجرة, وكذلك لم تقم السلطات العثمانية سوى بتوفير تصاريح الهجرة. بسبب هجرة عائلات معاً قامت هذه العائلات ببيع أصولها الثابتة في البوسنة والهرسك بأثمانٍ بخسة وحملوا ما هو ضوروري فقط، إضافة إلا النقود والذهب.

أول مكان توقف فيه المهاجرون كان اسطنبول، ثم إزمير. بقيت بعض العائلات في إزمير بينما أكملت بقية العائلات الأخرى طريقها إلى سوريا ، وتحديداً قرية في ريف دمشق.

كان البوسنيون (البشناق) مَيسورين نسبيًا، ولهذا لم يتلق المهاجرون أي مساعدة خاصة من السلطات العثمانية. اشتروا الأرض بأموالهم الخاصة ومارسوا مهنة الزراعة. ومع ذلك، واجهوا بعض العداء من السكان المحليين، “الذين استقبلوهم كأجانب”. اعتقد البشناق أنهم سيجدون نقاءًا دينيًا أكبر أثناء العيش في الأراضي الإسلامية التي شهدت فجر الإسلام، لكنهم واجهوا بدلاً من ذلك التعصب العرقي، والخصوصيات الإقليمية المذهلة التي لم يدركوها سابقاً، ولم يجدوا ذلك النقاء الديني الذي تخيلوه بل وجدوا أناساً عاديين فرقتهم أمور السياسة واختلافات المذاهب الدينية.

لقد أدرك البشناق تمام الإدراك أن الشيء الوحيد الذي يربطهم بهذا الشعب هو الدين المشترك. رافق هذا الانزعاج الأخلاقي مشاكل في التأقلم. وأصبحوا غير قادرين على التكيف مع هذه البيئة الكئيبة والحرارة المرتفعة في الصيف على حواف الصحراء السورية (ناهيك عن جيرانهم الجدد المحبطين) ، قرروا أن يطلبوا من السلطات العثمانية تسهيل إعادة توطينهم، بشرط أن يتمكنوا من البقاء معًا. وافقت الحكومة على هذا الطلب ومنحتهم حرية اختيار مكان إقامة جديد. علموا من مواطن يعمل في الإدارة العثمانية عن قيسارية، موقع أثري شبه مدمر بالقرب من حيفا ، على الساحل الفلسطيني للبحر الأبيض المتوسط.

فقط أولئك الذين لديهم القدرة المادية غادروا ؛ وبقي عدد قليل في سوريا، بينما عاد البعض الآخر إلى الأناضول واستقروا في أضنة واسطنبول. لذا، بعد حوالي عامين في سوريا، انطلقت المجموعة لفلسطين، بعد أن فقدوا الروابط مع وطنهم الأم وعدم وصول وافدين جدد من البوسنة والهرسك. استقر البشناق في قيسارية بينما انقسمت مجموعة أصغر – مؤلفة من عائلات لاكيشيتش ، وسيليتش ، وميزيفيتش ، وميكيسيتش – وذهبت إلى قرية يانون ، بالقرب من نابلس.

إقامة البوسنيين في قيسارية

العائلات المقيمة في قيسارية

من مئات العائلات التي انتقلت من موستار، استقر حوالي خمسين في قيسارية. فقط اثنان وثلاثون من أسماء العائلات معروفة. في قيسارية ، كانت هناك عائلات مرادوفتش (Muratović)، زبتشوفتش (Zubčević) من تريبينيي. وعائلة ميهيتش (Mehić) كانت من موستار وتريبينيي، أما عائلة تشامبو (Džampo) استولاك. عائلة تشالدوش (Šaldos) تنحدر من تشابلينا. التشيكيزوفيتش (Čerkezovićs) كانوا من موستار لكنهم لا يعرفون أصولهم. أما عائلة رضوانوفيتش (Rizvanbegovićs) الاستولاكية فكانت مميزة في موستار. عائلة راجيكوفيتش (Rajković) من بلاغاي وبعضها موجود في موستار. وعائلة فازلاغيتش (Fazlagić) من تشابلينا، هذه العائلة عاش بعضها في موستار لأن هناك شارع سمي باسم العائلة في المدينة. أما عائلات ييترو (Vjetro)، ميكيزيتنش (Mikišić)، أولازيتش (Ulakšić)، حاجيموليتش (Hadžimulić)، بوريتش (Borić) لم يعرف من أي مدينة ترجع أصولها. جميع العائلات الأخرى التي استقرت في قيسارية كانت من موستار ويمكن اعتبارها كبيرة ومحترمة وميسورة الحال. هؤلاء هم عائلات لاكيشيتش ، وبوزيك ، وحاجيسيليموفيتش ، وحسنجايتش ، وسيهاتشيتش ، ودرازي ، وأوميرجيتش ، وستوباك ، وديميروفيتش ، وراميتش ، وكادييفيتش ، وحاجليتش ، وبركيتش ، وديزدار ، وكوماد ، وميزيفيتش ، ريباك ، وريباكيتش.

في البداية كان المهاجرون إلى قيسارية من موستار هم الوحيدون الذين يعيشون في القرية الجديدة، وسرعان ما دفعوا للفلاحين لزراعة أراضيهم. قامت السلطات العثمانية لاحقًا بتوطين سبع عائلات شركسية، وعائلة بلغارية “مسلمة” ، وعائلتين تركيتين في قيسارية، وتمتع البشناق بعلاقات ودية معهم ومع جميع المجتمعات المجاورة. كان لديهم علاقات جيدة وتجارية مع المجتمعات اليهودية الأصلية في الخضيرة وزامارين ويسميهم الفلسطينيون بالسامريين ويعتبرونهم فلسطينيين مثلهم.

لم يكن هناك أي وافدين جدد تقريبًا من البوسنة والهرسك ما لم نحسب النساء اللواتي تم جلبهن من الديار كزوجات بدءًا من الثلاثينيات. كان الاستثناء الوحيد هو عائلة محمد بيجوفيتش، التي انتقلت إلى قيسارية في عشرينيات القرن الماضي، بدعوة من أقاربهم. مرض العديد من المهاجرين في السنوات الأولى من الاستقرار في قيسارية بسبب المناخ الصعب، الذي تفاقم بسبب الآثار السلبية للمستنقعات القريبة من القرية. وقد تسببت الملاريا على وجه الخصوص في عدد من الوفيات، كما أن البعد عن الوطن الأم أثر سلبياً على الكثيرين. في السنوات العشر الأولى في فلسطين، كان هناك العديد من الوفيات، حيث قضت عائلات بأكملها حيث أن بعض العائلات لم تنجب بسبب العقم.

الحكم الذاتي البلدي

تم تنظيم البُشناق في قيسارية في بلدية وفقًا للوائح العثمانية السارية في ذلك الوقت. كان المدير أحمد بي كاتخودا والمؤذن من البشناق من عائلة دراجي. بمبادرة خاصة منهم، قام القرويون ببناء مسجد مع مدرسة قدمت أربع سنوات من التعليم الديني للأطفال. استأجر البشناق مدرسًا عربيًا يدعى الحاج حسن، دفعوا له أيضًا مقابل أن يكون إماماً.

بناء الكيان البوسني الجديد (القرية)

انجذب مهاجروا البوسنة إلى موقع قيسارية القديم لثلاثة أسباب:

  • (1) كان الموقع فارغًا ، وذلك أتاح لهم فرصة للعيش بمفردهم ؛
  • (2) وجود أراض خصبة صالحة للزراعة. و الأهم من ذلك
  • (3) كان للبلدة القديمة ميناء خاص بها، وهو أمر مهم للغاية حيث أن عدم وجود روابط برية ملائمة للعالم الخارجي جعل الانفتاح على البحر مفيداً للتجارة.

عاش المهاجرون في حيفا والمناطق المجاورة لها لمدة عامين تقريبًا أثناء إنشاء القرية وانتقلوا إليها بعد الانتهاء من البناء. كما هو الحال مع وصولهم الأولي إلى الولايات العثمانية، لم تقدم السلطات العثمانية أي مساعدة للمهاجرين في بناء قريتهم.

وبهذا تُرك المجتمع البوسني لحل مشاكله بمفرده، واستخدم موارده الخاصة لتوظيف مهندس ألماني. كما هو الحال مع قرى المهاجرين الأخرى في جميع أنحاء الدولة، فإن قرية البشناق الجديدة في قيسارية تختلف عن المجتمعات المجاورة في تخطيطها وهندستها المعمارية.

صوره قديمه لقرية قيسارية وقد بدت مهجرة من أهلها

تم بناء القرية داخل أسوار على النمط البيزنطي الروماني القديم، ولكن تم تصميم القرية جاء على غرار قرى الهرسك القريبة من موستار، كما يتذكره المهاجرون. على طول الشوارع الواسعة، كانت المنازل الحجرية مكونة من طابقين مع أسقف من بلاط السيراميك وحدائق مسيجة. كان هذا تباينًا حادًا عن النمط الكلاسيكي للقرى الأصلية لهذا الجزء من العالم، والذي كان يفتقر إلى النوافذ ، و يحتوي لى باحات داخلية تفتح عليها الغرف، وتحيط بها جدران عالية.

منظر حديث لقيسارية المهجرة وتبدو مئذنة المسجد عن بعد

اختلف عدد الغرف بين غرفتين وأربعة حسب حجم الأسرة ووضعها المالي. لكل منزل غرفة جلوس، غرفة نوم، مطبخ، عِلِّية. تم تأثيث هذه الغرف بأسلوب بوسني نموذجي، في حين تم بناء المراحيض “على الطراز القديم” – في الفناء، كما شيدت المباني العامة في القرية: مكتب إداري، ومركز جمركي لمرفأ قيسارية ، ومسجد مع المدرسة والمقابر، حيث قام البشناق ببنائها جميعاً.

اللباس

بقيت أنماط الملابس الأصلية قيد الاستخدام بين البشناق في قيسارية حتى الجيل الثاني في فلسطين، عندما تبدؤوا بتغيير لباسهم اندماجاً مع البيئة المحيطه. كان هذا التغيير في المقام الأول بسبب تأثير البيئة الجديدة، وكذلك من خلال التكيف الطبيعي مع الظروف المعيشية الجديدة. حدث هذا لجميع القرويين، بغض النظر عن وضعهم الاجتماعي. يميل الرجال إلى أن يكونوا أول من يرتدون الملابس المحلية، بسبب ارتباطهم الوثيق بالعالم الخارجي، أما النساء، حيث يرتبطن بالتقاليد ويقضين أوقاتهن في المطبخ والمنزل، تأثرن ولكن ببطء. في هذا المكان الجديد، بدأت النساء بالتخلي عن السراويل الواسعة التقليدية (dimije أو salwars) ، التي لم ترتديها النساء العربيات، وبالتالي، تم التخلي عن ملابس البلد القديم بسرعة نسبيًا، تمامًا كما هو الحال مع المهاجرين في تركيا، الذين اعتمدوا أيضًا ملابس السكان المحيطين.

زي النساء في البوسنة والهرسك

المطبخ البوسني

كأقرانهم من المهاجرين إلى الأراضي العثمانية، تناول البشناق الطعام التقليدي لمحيطهم الجديد مع الاستمرار في إنتاج أطباق نموذجية من البلد الأم، بما في ذلك تخصصات المطبخ البوسني المسلم مثل (فطائر العجين اللذيذة) ، الغرِّيبَة gurabije (بسكويت الخبز القصير) ، وكالبوراباستي hurmašice (كعك منقوع في الشراب).

العمل والحرف والتجارة

تقع ممتلكات البشناق على بعد حوالي ثلاثة كيلومترات خارج القرية. كانت الأرض جيدة وخصبة، وكانت إحدى وظائفهم الأساسية هي الزراعة، استأجروا الفلاحين الذين عملوا كعمال بأجر في أراضي البشناق وقاموا أيضًا بمهام البستنة والعمل اليدوي الآخر. وبصرف النظر عن الزراعة ، كانت أكثر الحرف شيوعًا ومربحة هي تربية الحيوانات والحرف اليدوية.

الزواج والأسرة

بعد الاستقرار في قيسارية ، عاشت عائلات كبيرة معًا في أُسر مشتركة، والتي تشمل أسر الآباء والأبناء المتزوجين وزوجاتهم وأطفالهم. كان الزواج في الغالب أحاديًا فقط أي زوجة واحدة، مع حالة معروفة واحدة فقط حين تزوج أحد البشناق من زوجتين.
اعتبارات العرق والوضع المادي كانت عوامل رئيسية في قرارات الزواج، مع الاهتمام على الحفاظ على الزواج العرقي بين البوسنيين فقط لحفظ اللغة والعادات والتقاليد. تم البحث عن زوجات وأزواج بين البشناق في قيسارية. ذهب البعض إلى تركيا بحثاً عن زوجات من الشتات البوسني هناك. كانت هذه الرحلات شائعة. وبدرجة أقل، ابتداءً من منتصف الثلاثينيات كان يتم البحث عن عرائس من الوطن الأم.
في البداية ، لم تكن هناك زيجات بينهم وبين العرب. لكن هذاالوضع تغير في نهاية المطاف، حيث مات العديد من البشناق بسبب المناخ القاسي ولم تتمكن البوسنيات على وجه الخصوص من الإنجاب في السنوات العشر الأولى. بدأ البوسنيون تدريجياً في ترتيب الزيجات مع السكان العرب.

الثقافة والدين

اشترك المهاجرون البشناق والسكان الفلسطينيون نفس الدين فكلاهما مسلمين، عامل الدين ساعد في الاندماج والعيش المشترك. ومع ذلك حافظ المهاجرون على ثقافتهم الأصلية ولُغتهم الأم، ويرجع الفضل في ذلك إلى النساء اللاتي نقلن اللغة للأبناء، وقد تحدث المهاجرون البشناق اللغتين الصربية والكرواتية وعلموها لأبنائهم وكانوا ييستخدمون اللغتين في الحديث فيما بينهم بشكل دائم للحفاظ على اللغة، إلا أن اللغة العربية قد سادت جيلاً بعد جيل واحتفظ البشناق ببعض من عاداتهم وأهازيجهم الشعبية لكن في معظمهم فقدوا لغتهم الأم.

الهجرة من قيسارية

الأسباب والوجهة

بدأت الهجرة من قيسارية في وقت مبكر أي قبل حرب 1948 والاحتلال الصهيوني لفلسطين. حيث أجبرت مشقة التكيف مع المناخ الجديد ومشاعر انعدام الأمن من الغارات البدوية التي كانت شائعة في هذا الجزء من العالم بعض العائلات مثل ريميتش وراجكوفيش على العودة إلى ديارهم وأخرى للانتقال إلى مكان آخر في الدولة العثمانية ، مثل عائلة الدوزدار وغيرهم.

كانت هناك أيضًا موجة من العائلات التي غادرت عندما بلغ أطفالها سن المدرسة. بما أن قيسارية لم يكن فيها سوى مدرسة دينية مدتها أربع سنوات، انتقلت العديد من العائلات إلى مدن أكبر مثل حيفا وطولكرم ونابلس ويافا والقدس بحثًا عن التعليم لأطفالهم. حيث يمكن للشباب البحث عن مؤسسات أفضل للدراسة.

كما شجع تزايد المهاجرين الأجانب الجدد البشناق على التخلي بشكل متزايد عن قيسارية. جاء أولاً جاء المستعمرون الألمان، الذين عرضوا مبالغ كبيرة من المال لشراء ممتلكات البشناق، يليهم اليهود بعروضهم الجذابة للغاية لشراء الأراضي والمنازل. كان تدفق المهاجرين اليهود مكثفًا بشكل خاص حول 1920-1922 ، عندما بدأ البوشناق في مغادرة قيسارية بأعداد أكبر.

أدى النزوح الجماعي لمهاجري البوسنة من قيسارية إلى تغييرات أسرع وأكثر أهمية في أنماط حياتهم، مما أدى إلى تسريع انصهارهم بين السكان العرب المحيطين. في احصاءات السكان التي قام بها الاحتلال البريطاني لفلسطين، تم معاملة البشناق كمسلمين عرب.

في ذلك الوقت، بدأ يُطلق على العائلات البوسنية لقب بُشناق كاسم عائلي انضوت تحته جميع العائلات البوسنية وبقي يميزهم في كافة الأقطار العربية حتى اليوم. ومع بدء انشاء ميناء حيفا بعد الحرب العالمية الأولى، فقد الميناء في قيسارية أهميته. وبالمثل، فإن افتتاح خط السكة الحديد الساحلي جنوب حيفا قلل أيضًا من أهمية القرية ودفع المهاجرين إلى الانتقال إلى أماكن جديدة حيث يمكنهم مواصلة تجارتهم.

خلال هذه الفترة، كانت هجرتهم حرة وطوعية، دون أي تدخل من سلطات الاحتلال البريطاني. حيث انتقلوا إلى المدن الكبرى المجاورة، وعادت بعض العائلات إلى وطنها الأم. دفعت الأوضاع الاقتصادية العبة في قيسارية أيضًا العديد من العائلات – بما في ذلك مرادوفيتش و لاكيزيتش و كيركيزوفيتش ودزدار – للانتقال إلى تركيا ، خاصة إلى أضنة.

بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948 ، تم تهجير البُشناق من قيسارية بشكل نهائي، ومثل بقية السكان العرب في فلسطين، نزحوا إلى الدول العربية المجاورة مثل سوريا والأردن والكويت ولبنان ومصر. مع رحيل البشناق، توقفت قيسارية عن الوجود كقرية. ومنذ ذلك الحين، تُعد موقعًا أثريًا ذا أهمية ثقافية وسياحية فقط.

الوضع الراهن

يعيش البشناق اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة في مدن الضفة الغربية، طولكرم ونابلس ورام الله. وفي الأردن في عمان، تعيش هناك حوالي ستين أسرة، معظمها ذات مكانة اجتماعية اقتصادية جيدة. هناك أيضا أعداد كبيرة من البشناق يعيشون في الكويت. في لبنان، تعيش العائلات البوسنية في بيروت (عائلة دراتشي) وصور (ريبافاك) وطرابلس (تشامبو). أما في سوريا، فيعيشون في دمشق وطرطوس على ساحل البحر الأبيض المتوسط. كما أنهم يعيشون في مصر، وبعض البشناق يعيشون في غزة. بل إن بعضهم انتقل إلى تونس ومنهم المطرب المعروف لطفي بوشناق. لفترة من الزمن، عاشت عائلة بوسنية في البحرين، وانتقلت بعد ذلك إلى الكويت، واستقر بعض البوسنيين لبعض الوقت في أبو ظبي. كما يبدو أن هناك بوسنيين في السعودية في مدن الرياض ومكة وجدة. عاد الكثيرون من البشناق إلى تركيا ، في حين أن عائلة واحدة، هي عائلة الدكتور سليمان كاثودا التي كانت تعيش في العاصمة الأردنية عمان، عادت في الثمانينيات من القرن المنصرم إلى يوغوسلافيا السابقة (البوسنة والهرسك حالياُ)، وتمكنت العائلة من استرجاع جنسيتها اليوغوسلافية، وتعيش العائلة في موستار حالياً.

حافظ البشناق حتى يومنا هذا على إحساس قوي بالخصوصية، إلى جانب بعض الخصائص الثقافية والأنثروبولوجية. لا يزالون يحافظون على الزواج العرقي، وبالتالي لديهم بشرة أفتح بشكل ملحوظ. لكن اللغة الأم ببطء وثبات تلاشت، وحتى الجيل الأكبر سنا اليوم لا يتحدثها بشكل جيد. في نظر جيرانهم الجدد، هم اليوم جزء من شعب عربي – ويعتبرون فلسطينيين في نظر الجمهور العربي الأكبر. يمكن للمرء أن يقول أنه بعد مرور مائة عام على وصولهم إلى فلسطين، يعيش المهاجرون البوسنيون في شبه اندماج كامل مع محيطهم العربي. بقي شيء يذكرنا بماضيهم وأصولهم هو اسم عائلتهم بُشناق.

من الجميل أن نختم المقال بتذكير القُرّاء بأحمد باشا الجزار حاكم عكا الذي هزم نابليون بونابرت ومنعه من احتلال فلسطين، حيث أن أحمد باشا الجزار الوالي العثماني كان بوسنياً ودافع عن فلسطين. يُذكر أن بعض البشناق كما أوردت وكالة الأنباء الفلسطينية جاؤوا إلى فلسطين للدفاع عنها في حرب عام 1948.

المراجع

Loading

اترك تعليقاً